فرجال news ناجي الغزي/ باحث سياسي واقتصادي حين نفّذت الولايات المتحدة ضربتها ضد المنشآت النووية الإيرانية، كانت طهران تعلم أن لحظة كهذه، عاجلاً أو آجلاً ستأتي. لكنها لم تتوقع أن تأتي بهذه الحدة، وبهذا التوقيت، وهي تعلم أن هذه الضربة جاءت ضمن تنسيق واضح ومكشوف، عن ثمرة شراكة قبيحة بين واشنطن وتل أبيب.وهكذا وجدت الجمهورية الإسلامية نفسها في مواجهة لحظة مفصلية: إيران لم تسقط عسكرياً، ولكن تم تجريدها من إحدى أهم أوراق الضغط: ورقة الردع النووي.ولم تنهزم سياسياً، لكنها باتت محاصرة بخيارات محدودة، كلها مؤلمة. إيران كعادتها لا تبحث عن انتقام فوري. بل تسعى إلى إعادة التموضع الاستراتيجي عبر مزيج من التكتيكات السياسية والعسكرية، تحافظ بها على هيبتها وتستعد للمرحلة المقبلة. *أولاً: الفهم الإيراني للضربة* القيادة الإيرانية لم ترَ في الضربة الأميركية مجرد عمل عسكري محدود. بل قرأتها كالتالي: اختبار فعلي للخطوط الحمراء الإيرانية، ورسالة مزدوجة إلى الداخل الإيراني، بأن الحماية سقطت؛ وإلى الإقليم، بأن إيران باتت مكشوفة. وهذه يراد لها محاولة لإعادة هندسة موازين القوة قبيل أي مفاوضات محتملة. هذه القراءة ولّدت قناعة بأن إيران بحاجة إلى تعديل استراتيجيتها، وليس فقط في البرنامج النووي، بل في أدوارها الإقليمية، وأدواتها التفاوضية، ومصادر قوتها. *ثانياً: التموضع الاستراتيجي - والمرتكزات الجديدة* التموضع الإيراني الجديد بعد الضربة سيعتمد على مرتكزات مهمة وهي:1- استعادة الردع غير النووي: طالما تم ضرب منشآت نووية حساسة دون ردع فعال، فإن إيران ستحاول نقل المعركة الى الهامش الساخن، واستعادة توازن الرعب عبر، رفع مستوى التهديد البحري في مضيق هرمز، وتنشيط أذرعها الإقليمية، والاستعراض الصاروخي والتقني لإثبات بقاء القدرات. 2- ضبط الداخل وتحييد الانهيار: وهو التحدي الأكبر داخلياً - كيف تقنع جمهوراً متعباً أن الرد قادم دون أن تدفعه للتمرد؟ وكيف تُمسك بالمؤسسة الأمنية في ظل اختراقات كبيرة أفقدها السيطرة الوقائية على منشآت محصنة؟ لذلك ستسعى طهران إلى: تعزيز القبضة الأمنية داخل النظام. وإعادة توجيه الخطاب الإعلامي نحو تحميل الخارج مسؤولية ما جرى. وتصوير ما حدث كجزء من ‘‘مرحلة الصبر الاستراتيجي‘‘ لا الهزيمة. 3 - إعادة تعريف شروط التفاوض: إيران تعرف أن طاولة المفاوضات قادمة لا محالة، لكن بعد أن تسترد زمام المبادرة. ولذلك ستعمل على: رفع سقف شروطها للعودة للتفاوض: رفع العقوبات، وضمانات بعدم التكرار، تحديد دور إسرائيل. وكسب وقت ميداني عبر العمليات الرمزية والردود المحسوبة. واختبار الوسطاء المحتملين مثل : الروس، العُمانيون، الأوروبيون 4. إعادة تقييم قواعد الاشتباك: بعد الضربة، لم تعد قواعد الاشتباك السابقة صالحة. ما كان يُعد ‘‘خطًا أحمر‘‘ (مثل منشأة فوردو أو نطنز)، لم يعد كذلك. لذا، على إيران أن ترسم خطوطًا جديدة، وربما خطوطًا مموهة: ماذا يعني اختراق المجال الجوي؟ ما هو ‘‘الرد الضروري‘‘ وما هو ‘‘الرد التأديبي"؟ هل تكون الضربة التالية سيبرانية؟ هل تكون إقليمية؟ هل تكون إسرائيلية فقط أم أميركية كذلك؟ *ثالثاً - المعادلة الجديدة: الرد مقابل الاحتواء* تُدرك إيران أنها لم تعد وحدها اللاعب الأخطر، بل باتت هدفاً مشتركاً في أعين تحالف أوسع. لكنها تعرف أيضاً أن الحرب الشاملة ليست خياراً عقلانياً لأي طرف.من هنا، ستسعى طهران إلى تشكيل معادلة جديدة: تُعيد من خلالها فرض ثمن على أي ضربة قادمة. دون أن تُعطي واشنطن أو تل أبيب مبرراً لحرب شاملة. هذه ‘‘الردود المحسوبة والمدروسة‘‘ هي أساس التموضع القادم. وهي من ستحدد شكل أي اتفاق نووي مستقبلي، أو شكل أي حرب مؤجلة. الضربة الأميركية لم تُسقط إيران، ولم تُهزمها عسكرياً، لكنها خسرت ورقة الردع النووي في الوقت الراهن. أمام طهران الآن طريق واحد هو: إعادة تعريف مكانتها، وقواعد اشتباكها، ومصادر ردعها وهذا هو التموضع الاستراتيجي الجديد: ليس انسحاباً، وليس اندفاعاً، بل صبرٌ عنيفٌ يُهيئ لردعٍ جديد، لا يعتمد فقط على النووي، بل على كامل أدوات النفوذ الإيراني. والرد الإيراني سيكون حتمياً، لكن مدروساً، وقد يُنفذ بطرق غير مباشرة لتفادي الضربات الأميركية الواسعة. منظومة الحكم الإيرانية لا تزال متماسكة، لكنها تمر بضغط استثنائي داخلي وخارجي، ما يجعل القرار أكثر تعقيداً من السابق. واشنطن أرسلت إشارات متضاربة: ضربة عسكرية ضد المفاعل النووي مع دعوة للسلام، ما يعني أن الملف الإيراني دخل مرحلة جديدة من التفاوض بالقوة. والمرحلة المقبلة ستُحدَّد بناءً على مسارين متوازيين: سلوك إيران الميداني، ومدى التزام الولايات المتحدة بعدم تنفيذ ضربة ثانية. الـ 72 ساعة القادمة هي ساحة الاختبار الأولى.