فرجال news
ناجي الغزي/ باحث سياسي واقتصادي
لم يكن فجر الضربة الجوية الأميركية على المنشآت النووية الإيرانية مجرد لحظة عسكرية عابرة، بل كانت حدثاً مفصلياً في المعركة الممتدة منذ أكثر من عقدين من الزمن. لم تتطاير فيها فقط شظايا الصواريخ، بل تساقطت معها ال كثير من الأقنعة والتوازنات. ورغم قوة النيران الخارقة التي استخدمت، فإن المشهد الأهم لم يكن تحت الأرض حيث فوردو أو نطنز، بل كان في العقل الإيراني، في الغرف المغلقة التي أدارت عملية إنقاذ استراتيجي هي الأذكى في تاريخ البرنامج النووي الإيراني.
السؤال الذي طرحَ نفسه بقوة بعد الضربة لم يكن يتعلق بحجم الدمار الظاهر، بل بالفراغ الذي خلفه اختفاء المادة الأهم: 400 كغم من اليورانيوم عالي التخصيب بنسبة 60%. كانت هذه الكمية في حكم المفقودة، لا في مكان الضربة، ولا في تقارير التفتيش الدولي اللاحقة. وهنا تفتح الرواية الإيرانية الموازية أبوابها: أن إيران كانت تتوقع الضربة، أو على الأقل تعتبرها خياراً مطروحاً منذ فشل مفاوضات جنيف الأخيرة، وأنها بنت سيناريوهات ‘‘الإجلاء الوقائي‘‘ لموادها الحيوية على مدار أشهر.التقديرات الغربية تُشير إلى أن إيران استخدمت شبكة تحت أرضية معقدة لنقل المواد الحساسة إلى مواقع بديلة، بعضها ربما داخل منشآت لم تُعلن رسمياً كمنشآت نووية، وبعضها قد يكون حتى خارج حدود إيران الجغرافية، بما يشبه ‘‘الوديعة النووية المؤقتة‘‘ لدى حلفاء إقليميين موثوقين. هذه الاستراتيجية تعكس عقيدة أمن نووي استباقي تتجاوز المفهوم التقليدي للحماية الثابتة، إلى مفهوم ديناميكي قائم على التنقل والتشتت الذكي.
*الحيلة القانونية لتعليق التعاون*
الضربة الأميركية لم تؤدِ فقط إلى تغيير جغرافي في مواقع التخزين، بل دفعت إيران إلى ما يمكن تسميته بـ"الهجوم القانوني المعاكس". ففي طهران، صوّت مجلس صيانة الدستور على قرار البرلمان بتعليق التعاون مع الوكالة الدولية للطاقة الذرية. لم يكن القرار إلغاءً، بل تعليقاً مشروطاً، بعث برسائل مزدوجة: الأولى إلى الداخل الإيراني أن السيادة فوق أي اعتبار، والثانية إلى العالم أن الباب لم يُغلق، لكنه ليس مفتوحاً بالكامل.هنا، نجحت إيران في خلق حالة من التوازن غير المستقر: فهي من جهة دولة ‘‘لا تُخرق بسهولة‘‘ رغم فداحة الضربة، ومن جهة أخرى لا تزال تتحدث بلغة القانون الدولي وتُبقي للوكالة هامشاً نظرياً من العلاقة. المعضلة التي واجهت أوروبا، والوكالة الدولية تحديداً، هي أن الضربة لم تكن فقط عسكرية، بل حطمت أيضاً المرجعية الأخلاقية والحيادية التي تحاول الوكالة الدولية للطاقة الذرية أن تتمسك بها منذ سنوات.
*الاشتباك مع الوكالة*
تصاعدت المطالبات داخل طهران، ومن دوائر قانونية مؤيدة لها في بيروت وموسكو، بأن يُلاحق مدير الوكالة رافائيل جروسي أمام المحكمة الجنائية الدولية، بصفته مسؤولاً معنوياً عن تقارير استخباراتية استخدمت لتبرير الضربة. إيران تتهم بعض المفتشين الأمميين بتسريب مواقع العلماء والمعدات، أو على الأقل بتوفير الأرضية القانونية لعمل عسكري لم يحظَ بغطاء أممي. ما بدا ضرباً عسكرياً مفاجئاً، تحوّل لاحقاً إلى فرصة لإيران لتُحوّل المفتشين إلى متهمين، والضحية إلى مدّعٍ.وفي هذه اللحظة، أصبحت طهران تُفاوض العالم من موقع ‘‘المجني عليه"، لا فقط الطرف العنيد في الملف النووي. حتى بعض دول الاتحاد الأوروبي بدأت تتساءل عن مدى قانونية ما جرى، وهل كانت واشنطن وإسرائيل قد تجاوزتا الحدود في التصرف ضد منشآت تابعة رسمياً للأمم المتحدة.
*إيران تعيد هندسة الردع*
بعد 12 يوماً من المواجهة، أصبح واضحاً أن إيران لم تخرج مدمرة، بل أعادت الانتشار. فالهندسة الجديدة للردع لم تعد تعتمد فقط على المنشآت المعلنة، بل على بنية تحتية غير مرئية، وعلى تحالفات صلبة بدأت تثمر: روسيا أعلنت نيتها بناء مفاعلين نوويين جديدين في إيران، معلنة بذلك ‘‘تحالف نووي شرعي‘‘ بين موسكو وطهران، كبديل عن وصاية الوكالة.وهنا تكمن المفارقة: الضربة التي كان يُراد لها أن تنهي المشروع النووي، أنتجت ولادة سياسية وقانونية جديدة له، في ظروف أكثر راديكالية.
*مرحلة المفاوض الذكي لا المقاتل العنيد*
لن تكون طهران في عجلة من أمرها للعودة إلى طاولة المفاوضات، لكنها لن تغلق الباب تماماً. ستحاول، كما فعلت سابقاً، أن تُفاوض من موقع المُنتصر الأخلاقي، وأن تُعيد رسم قواعد اللعبة لا فقط حول نسب التخصيب، بل أيضاً حول ‘‘شروط المراقبة"، وهو ما يُعد سابقة في تاريخ العلاقات بين الدول والوكالة الدولية للطاقة الذرية.
أما واشنطن، فستجد نفسها مضطرة لتوضيح ثغرات العملية أمام مجلس الشيوخ، بينما سيكون نتنياهو أمام مأزق استراتيجي داخلي: لقد شجّع على ضربة لم تنه المشروع النووي، وفتحت الباب أمام روسيا لتلعب دور الوصي الجديد على النووي الإيراني.وحسب تصريحات عباس عراقجي، تشترط ‘‘وقف استباحة الأجواء الإيرانية‘‘ أولاً، وهي تدرك أن واشنطن، رغم خطاب ترامب التصعيدي، لم تخرج بشيء حاسم من الجولة العسكرية. لكن هذه العودة ستكون مختلفة:• ملف الـ 60% تخصيب سيبقى ورقة تفاوض، وقد يتم تحويله إلى صيغة سلمية (إعادة التخصيب إلى 3%) مقابل رفع الحظر وتأكيد الحق في التخصيب المدني.• ملف البرنامج الصاروخي سيبقى خارج المساومة، إذ تراه إيران حقاً مشروعاً ومدرجاً في بنود الاتفاق النووي الأصلي.• الوكالة الدولية لم تعد جهة نزيهة في نظر طهران، وبالتالي فإن أي عودة للتعاون ستكون مشروطة بضمانات روسية أو أممية بصيغة جديدة.
*الردع العقائدي والتقني*
الضربة أثبتت شيئاً مهماً للداخل الإيراني: البرنامج النووي ليس مجرد منشآت، بل إرادة معرفية واستراتيجية مستقلة. في الخلفية، عاد النقاش حول فتوى تحريم السلاح النووي، لكنه لم يصل إلى تغييرها. والسبب؟كما يقول المستشار هادي دلول: ‘‘السلاح الباليستي يكفي، ولا حاجة لصناعة قنبلة لا يمكن استخدامها في منطقة ستحترق كلها معها". الرادع أصبح متعدّد الطبقات:• بالستي مرخّص وغير مخصص لحمل رؤوس نووية• قدرات علمية طبية وفضائية في جامعات طهران وأمير كبير، تشكّل تهديداً للهيمنة الغربية• منشآت متطورة وأكثر أمنًا قيد البناء بعيدًا عن الرادارات
*ماذا بعد؟*
المشهد يشبه رقعة شطرنج دولية معقّدة: أميركا تعاني من ارتباك استخباراتي وسياسي داخلي بعد التسريبات وفتح FBI تحقيقاً بشأن مصدرها. وإسرائيل في أزمة خطاب داخلي: الضربة لم تحقق ‘‘صفر تخصيب"، والضغط سيعود مع أول تقارير عن استئناف التخصيب. وإيران تدير الزمن ببطء، تكسب الوقت وتعيد ترتيب الأوراق، وتجعل من كل وثيقة قانونية أو علمية ورقة سياسية في مفاوضة كبرى.
في النهاية، إيران لم تُلقَ عليها قنابل فقط، بل فُرض عليها اختبار وجودي...لكنها، على ما يبدو، خرجت من تحت الركام وهي تحمل اليورانيوم في يد، وفي اليد الأخرى ورقة تفاوض وادّعاء قانوني قد تُغيّر به قواعد اللعبة