خطاب المالكي بين التحذير والتكرار وغياب المشروع الاصلاحي

ادارة الموقع نشر في 2025-02-01 20:21:05 عدد زيارات الموضوع 47

فرجال...news
ناجي الغزي/ كاتب سياسي
ألقى زعيم ائتلاف دولة القانون، السيد نوري المالكي، كلمة خلال المؤتمر التأسيسي لرؤساء قبائل وشيوخ عشائر كربلاء، حملت في طياتها مخاوف كبيرة بشأن مستقبل العملية السياسية في العراق. وكعادته، ركز المالكي على التحذيرات من الفتنة، والتنبيه إلى مخاطر بقايا داعش وحزب البعث المنحل، متحدثاً عن وجود محاولات للالتفاف على النظام السياسي، وضغوط لإلغاء قانون المساءلة والعدالة وإطلاق سراح الإرهابيين.
لكن اللافت في هذا الخطاب، أنه جاء خالياً من أي ورقة إصلاحية أو رؤية واضحة لطمأنة الشارع العراقي. ولم يقدم حلولاً ملموسة لمعالجة هذه المخاطر، بل جاء ليكرر ذات التحذيرات التي طالما ترددت في المشهد السياسي العراقي منذ عام 2003.
إذ أن تكرار هذه التحذيرات، دون تقديم حلول عملية، لا يزيد سوى من حالة القلق والتوجس بين المواطنين، الذين يعيشون أصلاً في ظل مشهد سياسي مرتبك ومتخبط.
لكن ما يثير التساؤل هنا هو: إذا كانت هذه هي مخاوف المالكي الحقيقية، فلماذا مررت صفقة العفو العام المثيرة للجدل، والتي شملت إرهابيين وقتلة، وسراق المال العام، وخارجين عن القانون؟ وكيف يمكن تفسير هذا التناقض بين الخطاب السياسي الذي يحذر من المخاطر، وبين القرارات التي سوف تساهم فعلياً في إعادة الكثير من هؤلاء إلى المشهد؟
والكل يعلم إن تمرير قانون العفو العام جاء نتيجة صفقة سياسية بين الكتل الكبرى، حيث تم تضمين بنود سمحت بإطلاق سراح أشخاص متورطين في قضايا إرهابية تحت غطاء “عدم كفاية الأدلة”، فضلاً عن تسويات ستشمل إطلاق سراح مسؤولين سابقين متورطين في نهب المال العام. هذه الصفقة ستضع العملية السياسية ونظامها السياسي في مأزق كبير، إذ أنها وجهت ضربة لمصداقية الدولة في محاربة الفساد والإرهاب.
فإذا كان المالكي اليوم يحذر من خروج الإرهابيين من السجون، فلماذا لم تكن هناك وقفة جادة عند إقرار هذا القانون؟ وإذا كان البعثيون والإرهابيون “يتحركون في غفلة من الأجهزة الأمنية”، كما يقول، فمن المسؤول عن هذه الغفلة؟
*السلاح بيدنا.. أي ديمقراطية هذه؟*
من أخطر ما ورد في خطاب المالكي قوله: “مادمنا موجودين والسلاح بيدنا، فسيندمون”. هذا التصريح يفتح الباب لتساؤلات خطيرة حول طبيعة الديمقراطية في العراق. فحين يكون السلاح هو الضمانة لبقاء النظام، وليس القانون والدستور والمؤسسات الشرعية، فإن ذلك يعني أن العراق لا يزال بعيداً عن بناء الدولة المدنية الحديثة.
الديمقراطية الحقيقية لا تُحمى بالسلاح، بل بتوافق وطني مبني على احترام الدستور والمؤسسات، وبناء دولة تحظى بثقة شعبها، لا دولة تقوم على التهديد بامتلاك القوة. إن استمرار هذا النهج في إدارة الدولة يجعل العراق أشبه بحالة “استقرار زائف”، قابل للانهيار عند أول صدام كبير.
*المساءلة والعدالة.. قضية أم ورقة ضغط؟*
أحد محاور خطاب المالكي كان رفضه الضغوط لإلغاء هيئة المساءلة والعدالة، وهو ما يعيد إلى الأذهان السؤال القديم: هل المساءلة والعدالة مشروع وطني لحماية العراق من عودة البعث، أم مجرد ورقة سياسية تُستخدم عند الحاجة؟
لقد شهد العراق خلال السنوات الماضية استخداماً انتقائياً لهذا الملف، حيث يتم تحريكه أو تجميده وفقاً لمصالح الأطراف المتنفذة. وفي الوقت الذي يتمسك فيه المالكي بعدم إلغائه، فإن الواقع يقول إن القانون لم يعد فعالاً كما كان، إذ أن كثيراً من الشخصيات التي كانت مشمولة به قد عادت إلى المشهد السياسي والاعلامي عبر مؤسسات الدولة بطرق مختلفة، إما عبر التفاهمات السياسية أو بصفقات مشابهة لقانون العفو العام.
*الفتنة.. هل الخطر داخلي أم خارجي؟*
حذر المالكي من أن الفتنة، “إن وقعت، فستنهي كل شيء”، مشيراً إلى ما حدث في سوريا كنموذج لما يمكن أن يحدث في العراق. لكن المعضلة هنا أن استقرار العراق لا يمكن أن يتحقق فقط عبر تحذير المجتمع من الفتنة، بل يتطلب خطوات فعلية لمعالجة جذورها.
الفتنة لا تنشأ من فراغ، بل تغذيها أزمات اقتصادية، وفساد متفشي، وانعدام العدالة الاجتماعية، وإقصاء وتهميش طاقات وكفاءات من المشهد السياسي عملت وساهمت في اسقاط النظام البعثي. وإذا كان المالكي يحذر من محاولات بعض الأطراف “إعادة سيناريو سوريا” في العراق، فإن السؤال الأهم هو: لماذا توجد هذه القابلية للانقسام والاحتراب الداخلي أساساً؟ ولماذا تظل الهوية الوطنية العراقية ضعيفة أمام الانقسامات السياسية والطائفية؟
إن تحصين العراق من الفتنة لا يكون فقط بالتصريحات والخطابات، بل ببناء دولة قوية عادلة، تمتلك مؤسسات قادرة على احتواء جميع مكوناتها دون إقصاء، وتوفر فرصاً اقتصادية وسياسية متساوية للجميع، بدلاً من إدارة المشهد بمنطق الغالب والمغلوب.
*هل حان الوقت لخطاب سياسي جديد؟*
الشارع العراقي لم يعد بحاجة إلى خطابات التخويف من العدو الخارجي أو الداخلي، بل بحاجة إلى قيادات تمتلك الشجاعة لطرح حلول حقيقية.
التحذير من المؤامرات لن ينقذ العراق من أزماته، بل سيعمّق شعور المواطنين بفقدان الأمل في وجود مشروع سياسي قادر على إنقاذهم.
المرحلة القادمة تتطلب تغييراً جذرياً في طريقة التفكير والسلوك السياسي. فبدلاً من استمرار الخطابات التي تكرّس ثقافة الخوف والتهديد، يجب أن يكون هناك انتقال نحو خطاب إصلاحي حقيقي، يعالج أزمات الحكم، ويقدم رؤية وطنية قادرة على توحيد العراقيين، بدلاً من إبقائهم أسرى للصراعات والانقسامات.
من هنا نرى أن خطاب المالكي يعكس مأزقاً سياسياً كبيراً. فمن جهة، هو يحذر من انهيار العملية السياسية، لكنه لم يطرح أي رؤية إصلاحية لمعالجة الأسباب الحقيقية للأزمات. ومن جهة أخرى، يتحدث عن خطورة خروج الإرهابيين من السجون، في حين أن القوى السياسية التي ينتمي إليها كانت جزءاً من صفقة العفو العام التي سمحت بحدوث ذلك.
إن ما يحتاجه العراق اليوم ليس خطاب تخويف جديد، بل مشروع وطني يعيد الثقة بالدولة، ويحقق العدالة لجميع العراقيين، بدلاً من استمرار السياسات الانتقائية التي تُبقي البلاد في دوامة من الأزمات والصراعات.
وهنا لانريد التشكيك بحرص وجدية السيد المالكي في حماية العراق من الفتنة، ولكن عليه أن يذهب إلى أبعد من التحذير، وأن يكون جزءاً من الحل لا مجرد مُنذِرٍ بالخطر.

مواضيع قد تعجبك