🛑 فرجال... news
ثائرة اكرم العيدي /كاتبة وباحثة
في البصرة تنساب الحياة مع مد وجزر المياه وتنبض الشوارع برائحة الطين واختلاط الرمل بالبحر هناك تختلط الحقيقة بالوهم بين شوارعها والموانئها الصامتة وقعت حادثتان غيرتا وجه المدينة في الأسابيع الأخيرة وفاة (الدكتورة بان) تلك الكفاءة الطبية التي لم يعرف بعد إن كانت ضحية جريمة قتل أم قراراً يائساَ بالانتحار وقصة (خور عبد الله)التي أخذت حيزاً واسعاً في الشارع المحلي بما حملته من أحداث غامضة ومفاجئة.الترابط بين القضيتين لا يمكن تجاهله ليس فقط لكونهما وقعتا في نفس المدينة ولكن لأنهما تشكلان معا لوحة مأساوية عن الغموض الذي يلف الحقيقة في زمن يسهل فيه التضليل. حين يتزامن حدثان بهذا الشكل، يصبح من الصعب على الجمهور أن يميز بين ما هو واقعي وما هو مجرد انفجار إعلامي مصمم لإلهائه. في هذه اللحظة لا يتوقف الأمر عند الفضول بل يصبح المواطن ضحية لارتباك ممنهج يُترك أمام مأساة مزدوجة لا يجد لها تفسيراً.وفاة الدكتورة بان تحمل رسائل أعمق من مجرد حدث شخصي إنها سؤال عن قيمة المعرفة في مجتمع لا يحمي من يمتلكها وعن الأمن في مكان تُستهدف فيه الكفاءات العلمية خصوصاً النساء منهن. حين يُقتل العلم أو يُهدد من يسعى إليه تتحول المدينة إلى ساحة صراع خفي بين الجهل والوعي بين من يسعى للحق ومن يسعى للتستر على الجريمة. وفي المقابل (خور عبد الله) رغم اختلاف تفاصيله يشارك في نفس المشهد الغامض حادثة تثير التساؤلات وتجعل الناس يتساءلون عن حدود الحقيقة وعن الجهات الخفية التي تتحكم في مسار الأحداث.من منظور سياسي أو إعلامي توجيه اهتمام الناس نحو قضية مأساوية يمكن أن يشغل الرأي العام عن قضايا أخرى خصوصاً إذا كانت الأخيرة تتعلق بالفساد أو البيئة أو مصالح سياسية حساسة هذا لا يعني بالضرورة أن هناك مؤامرة مثبتة لكنه احتمال قائم ضمن استراتيجيات تشتيت الانتباه الإعلامي والسياسي وخاصة في الوقت الراهن مع اقتراب الانتخابات. إن هذا التزامن ليس مجرد صدفة فوجود قضيتين في وقت واحد يمكن أن يكون وسيلة للتضليل. فبينما يتركز اهتمام المواطنين على واحدة من القضيتين تُخفى الحقيقة عن الأخرى أو تُشوه الروايات لتبدو غير مرتبطة بالواقع. التضليل هنا ليس مجرد لعبة إعلامية بل انعكاس لواقع أعمق واقع يتم فيه استخدام الأحداث لصالح مصالح خفية حيث يُستغل الغموض لتضليل الشارع ويصبح المواطن بين مطرقة الصدمة وسندان الشك.عندما ننظر بعلانية نكتشف هشاشة إدراكنا للعدالة والحق نحن نبحث عن الحقيقة لكننا نصطدم بصمت المسؤولين وتناقض المعلومات وتسريبات متباينة تُقحمنا في دائرة من الغموض . التضليل هنا ليس مجرد أداة سياسية بل انعكاس لمجتمع يسعى للعيش في وهم الأمان بينما الحقيقة تتلاشى خلف ستار من الصمت. كل حدث يصبح مادة للسؤال وكل خبر يحمل احتمالات متشابكة بحيث يصبح الإنسان أمام مأزق وجودي يريد أن يعرف لكنه يُحرم من اليقين ويعيش في ضباب متلاطم مثل مياه خور عبد الله نفسه.إضافة إلى ذلك تكشف القضيتان عن الطبيعة الاجتماعية والسياسية للمدينة والمجتمع. ففي مجتمع يزدحم بالوجوه العابرة والمصالح المتضاربة تصبح الأحداث أشبه بمحكّ للوعي الجماعي. كيف يمكن للإنسان أن يثق في من حوله وفي المؤسسات التي من المفترض أن تحميه كيف يمكنه أن يفرق بين الحقيقة والخداع بين العدالة والواسطة؟ هنا يظهر السؤال الأعمق هل الحقيقة موجودة أصلاً في مجتمع تتحكم فيه السلطة والخوف والتضليل الإعلامي أم أنها مجرد فكرة نسبية تتغير حسب مزاج الجهات الفاعلةوإذا حاولنا تحليل الظاهرة على مستوى أوسع نرى أن التزامن بين القضيتين يسلط الضوء على ثنائية القوة والضعف قوة من يسيطر على المعلومات وضعف من يبحث عنها. هنا الجمهور ليس مجرد متفرج بل مشارك غير مدرك في لعبة أكبر لعبة يتقاطع فيها الإعلام والسياسة والمصالح الشخصية. كل تقرير كل خبر كل تعليق يحمل تأثيراً على الرأي العام ويمكن أن يكون أداة للتوجيه أو للتضليل.في نهاية المطاف تظل البصرة شاهدة على مأساة مزدوجة مأساة الدكتورة بان التي لم يعرف سبب موتها خور العبد الله مأساة لم تفسر وحقيقة تختبئ وراء اقنعة المسؤلين تفاصيل غامضة . وفي قلب هذا الغموض، يتعلم المواطن درساً قاسياً الحقيقة ليست متاحة بسهولة والعدالة ليست مجرد توقيع على ورقة أو تقرير رسمي. الحقيقة تُستخرج فقط لمن يملك الشجاعة للبحث عنها وسط مجتمع ملئ بالخوف والتناقض والعمالة. فالحقيقة ليست سلعة تُباع أو تُشترى.المواطن وحده يتعلم أن الصمت أحياناً أغرب من الجريمة نفسها.وهكذا تصبح البصرة مدينة الأسئلة المفتوحة حيث تُروى المآسي دون أن تحسم وحيث المواطن يقف أمام مأزق مزدوج بين خوفه على نفسه وبين شعوره بالعجز أمام قوى خفية تتحكم في مسار حياته بين خورٍ لا يعرف قدره وموتٍ لم يُفسر بعد. وفي هذا المشهد يظل الغموض سيد الموقف والشك رفيق الإنسان والبحث عن الحقيقة رحلة مستمرة ربما لا تنتهي إلا حين يقرر المجتمع نفسه مواجهة الواقع وإزالة الستار عن كل ما حاول الاخرون من مسؤولين واشخاص إخفاءه.واخيرا قد يكون الإعلام والشارع أدوات مزدوجة في لحظة يرفعون صوت الحق وفي لحظة أخرى يصرفون النظر عن الحقائق الأكثر خفاءاً حتى تبقى بعض القضايا مثل خور العيدالله طي الظل