🛑فرجال... news
بقلم: الكاتب احمد محمد، عضو مجلس الادارة الرابطة العربية الصينية للحوار والتواصل
اللغات ليست مجرد كلمات تتداول أو جمل تحفظ، بل هي جسور تبنيها الشعوب لتتخطى حدود الجغرافيا وتذيب الفوارق الثقافية. إن تعلم لغة جديدة يعني الدخول إلى عالم آخر بكل ما يحمله من تاريخ وقيم ورؤى، ويمنح الإنسان نافذة يتأمل منها حضارات بعيدة ويقترب عبرها من شعوب مختلفة. ومن هنا، يصبح تعليم اللغات ركيزة أساسية لبناء علاقات إنسانية قائمة على التفاهم والاحترام والتعاون.
وقد أدركت الصين هذه الحقيقة مبكرًا، فجعلت من اللغة والثقافة أحد أعمدة دبلوماسيتها الحديثة. ففي العقد الثاني من القرن الحادي والعشرين، أطلقت مبادرة ‘‘الحزام والطريق‘‘ إحياءً لطريق الحرير القديم، لا باعتباره طريقًا للتجارة فحسب، بل كمنظومة متكاملة تهدف إلى تطوير الشراكات الاقتصادية والثقافية والإنسانية. ومع هذه المبادرة، برزت اللغة الصينية كأداة استراتيجية لنشر المعرفة وتعميق التواصل مع الشعوب، لتتحول إلى أحد أعمدة المشروع الحضاري الصيني في القرن الجديد.
وفي بغداد، جاءت الخطوة العملية لترجمة هذه الرؤية من خلال الدور البارز الذي قامت به سفارة جمهورية الصين الشعبية، برعاية السفير تسوي وي، في افتتاح برنامج لتدريس اللغة الصينية في جامعة بغداد، أعرق الجامعات العراقية. ولم يكن هذا الحدث مجرد إدراج لغة جديدة في المناهج، بل محطة تاريخية في العلاقات العراقية–الصينية، حيث ارتقى التعاون من حدود الاقتصاد والسياسة إلى عمقه الحضاري والمعرفي. إن إدخال اللغة الصينية إلى جامعة حكومية مرموقة يعكس إيمان الصين بأهمية التفاهم الثقافي، ويجسد رؤية السفير تسوي وي والجانب العراقي في أن التعليم هو الطريق الأمتن لبناء جسور دائمة بين الشعبين.
فالطلبة العراقيون الذين يجلسون اليوم لتعلم الماندرين لا يحفظون كلمات جديدة فقط، بل يفتحون أبوابًا على حضارة عريقة، ويستعدون لخوض مسارات جديدة في مجالات التعليم والبحث والتعاون الدولي. ومن خلال هذا الإنجاز، فُتحت أمام الشباب العراقي آفاق واعدة، ورُسخت قاعدة متينة للتواصل الإنساني والفكري بين بغداد وبكين، ليصبح تعليم اللغة الصينية علامة فارقة في تاريخ العلاقة بين البلدين، ودليلًا حيًا على أن الثقافة واللغة هما أقوى الجسور التي تقرّب بين الأمم.
إن انتشار اللغة الصينية عالميًا، حيث يتحدث بها أكثر من مليار ونصف إنسان وتُدرّس في أكثر من 192 دولة، يجعلها اليوم تضاهي الإنجليزية من حيث الأهمية والحضور. واختيار الطلبة العراقيين لها لا يمنحهم أداة تواصل فحسب، بل يفتح أمامهم آفاق سوق العمل، ويعزز فرصهم في البعثات، ويمنحهم إمكانية التفاعل المباشر مع واحدة من القوى الاقتصادية والثقافية الصاعدة في العالم.
ولذلك، أصبح تعليم اللغة الصينية في العراق أكثر من مجرد مادة دراسية؛ فهو مشروع ثقافي وحضاري يفتح أبواب الحوار والفهم العميق بين الشعبين، ويجسد روح التعاون والشراكة الحقيقية.
إن عشق العراقيين للغة الصينية لا يقتصر على التعلم، بل يتعداه إلى تقدير الحضارة الصينية والانفتاح على تجربتها الإنسانية الفكرية، ورغبتهم في استكشاف تاريخها الغني وقيمها العريقة، والانخراط في حوار حضاري يثري العقل والثقافة.، ما يجعل من كل طالب للماندرين سفيرًا ثقافيًا صغيرًا يحمل رسالة تفاهم وصداقة بين بغداد وبكين. وهكذا، تتحول اللغة إلى جسر حي للتقارب، وأداة حقيقية لبناء علاقات طويلة الأمد تقوم على المعرفة والاحترام المتبادل، وتفتح آفاق مستقبلية واعدة للتعاون في مختلف المجالات.