🛑فرجال... news
د. طالب محمد كريم
في التاسع من سبتمبر 2025، تحولت الدوحة، العاصمة الهادئة التي اعتادت أن تُقدّم نفسها بوصفها جهة محايداً، إلى ساحة مواجهة استخباراتية مفتوحة. وفي هذا السياق جاءت الضربة الجوية الإسرائيلية التي استهدفت مقراً لقيادات حماس قلبت الموازين الإقليمية، ليس لأنها أنهت حياة عدد من المرافقين، بل لأنها حملت رسائل استراتيجية تعيد تعريف معادلات الأمن والوساطة والسيادة في الشرق الأوسط.
منذ اللحظة الأولى، كان واضحاً أن العملية ليست مجرد هجوم عابر. فالإعلان الأمريكي السريع، الذي أكد أن البيت الأبيض كان على علم مسبق بالضربة، كشف أن واشنطن لم تكن متفرجة بل شريكاً رئيسياً في رسم مسار العملية. ثم جاءت التفاصيل لتؤكد ذلك: إسرائيل زودت الولايات المتحدة بمعلومات دقيقة قبل التنفيذ، بينما أعادت واشنطن تمرير تحذير محدود إلى قطر، ما سمح –على ما يبدو– بإجلاء القيادة المستهدفة قبل دقائق من الهجوم، مع ترك الحلقة الأمنية المحيطة بهم لتتلقى الرسالة بالدم.
هذا السيناريو يعكس أن الضربة لم تكن تهدف إلى تصفية القيادة بشكل كامل، بل إلى ضرب الثقة وشبكة الأمان السياسي التي بنتها قطر على مدى سنوات. فنجاة شخصيات بارزة مثل خليل الحية، وسقوط خمسة من معاونيه ومرافقيه، يقدم نموذجاً كلاسيكياً لما يُعرف بـ(الاغتيال المحسوب): رسالة استخباراتية مركزة، تهدف إلى إرباك الخصم وإضعافه نفسياً، من دون أن تتحمل إسرائيل تبعات قتل قيادات سياسية بارزة على أرض حليف لواشنطن.
غير أن ما يجعل هذا الحدث استثنائياً ليس فقط مشهده العسكري، بل حرب الروايات التي تبعته. ففي حين قالت واشنطن إنها أبلغت قطر مسبقاً بالضربة، أكدت الدوحة أن التحذير جاء بعد بدء القصف، واعتبرت ما حدث (خيانة 100%). هذا التباين في الروايات ليس صدفة، بل يعكس موازنة دقيقة بين المصالح: إذ تحاول واشنطن أن تظهر بمظهر الوسيط المسؤول الذي ينبه شركاءه، بينما تسعى قطر لتبرئة نفسها أمام شعوب المنطقة وحلفائها من تهمة الفشل الأمني أو التواطؤ، فتقدم نفسها ضحية مباغتة.
ولا تقف الرسائل عند حدود التباين في الروايات؛ فالضربة نفسها كسرت أحد أهم الخطوط الحمراء: سيادة قطر. فمنذ عام 2003، عملت دول الخليج على بناء شبكة أمنية محكمة، مدعومة بالوجود الأمريكي، لتقديم صورة الخليج كمنطقة مستقرة وآمنة. غير أن الهجوم الإسرائيلي في قلب الدوحة أثبت أن هذه الصورة تراجعت، وأن التحالفات الأمنية القائمة لم تعد ضمانة ضد عمليات استخباراتية دقيقة، حتى لو صدرت عن حليف استراتيجي.
ويتعزز هذا المشهد بتراجع صورة قطر كدولة محايدة، إذ تجد نفسها اليوم أمام مأزق استراتيجي: فقد تعرضت لضربة إيرانية على قاعدة العديد الأمريكية قبل أشهر، ثم لضربة إسرائيلية استهدفت ضيوفها من قيادة حماس. والرسالة هنا واضحة: لا حصانة لأحد. ومكانة الدوحة كوسيط حصري في ملف غزة باتت محل شك، خاصة بعد أن فقدت حماس نفسها الثقة بأن وجودها في قطر ضمانة لحياتها.
الأهم من ذلك أن الضربة وجهت صفعة خفية لدول المنطقة التي راهنت على إسرائيل كضامن للأمن في مواجهة إيران. فقد أثبتت تل أبيب أنها لا ترى خطوطاً حمراء، وأنها قادرة على الضرب في قلب دولة حليفة لواشنطن دون أي رادع. الدرس هنا كبير: فالاعتماد على قوة خارجية لا تعترف بالحدود ولا تحترم السيادة هو رهان محفوف بالمخاطر، فحين أن بناء منظومة أمنية إقليمية مع دول الجوار ذات التاريخ والمصالح المشتركة قد يكون أكثر استقراراً على المدى البعيد.
يفتح هذا الحدث الباب أمام مرحلة جديدة في الشرق الأوسط، حيث لم تعد المعارك تُحسم بالصواريخ وحدها، بل بالمعلومات، والتحذيرات الغامضة، وحرب الرسائل. فالتحذير الأمريكي، الذي وصل قطر متاخراً أو بصيغة مبهمة، كان جزءاً من لعبة أكبر: إذ تسعى واشنطن للحفاظ على علاقتها مع الدوحة دون أن تمنع إسرائيل من توجيه رسائلها. أما قطر، فباتت عالقة بين نارين: حليف أمريكي يراقب كل شيء، وخصوم إقليميون يعتبرون أراضيها ساحة مفتوحة.
في النهاية، لم تكن الضربة مجرد قصف جوي، بل اختباراً لنظام الأمن الإقليمي برمته. فهي أظهرت أن الخليج لم يعد حصنا. منيعاً، وأن (الملاذ الآمن) أصبح وهماً. إنها رسالة بأن المنطقة دخلت عصراً جديداً: عصر الاستخبارات أولاً، حيث تُدار السياسة بالتحذيرات المتأخرة بقدر ما تُدار بالصواريخ.