🛑 فرجال... news د. طالب محمد كريم
حين نتأمل ما كتبه ميخائيل باختين في كتابه (رابليه وعالمه)، نكتشف أن الضحك لم يكن عنده مجرد لهو أو نكتة عابرة، بل كان فعلاً ثقافياً يحرّر الناس من الخوف ويعرّي السلطة من هيبتها. الكرنفال في أوروبا لم يكن مهرجاناً للفرح وحده، بل كان انقلاباً رمزياً يقلب الملوك والكهنة إلى موضوع للسخرية، ويمنح العامة لحظة مساواة مع النخب. وهنا نرى كيف يصبح الضحك سلاحاً اجتماعياً، يفتح باباً للتجديد ويتيح للناس أن يتنفسوا الحرية.
ولكن، دعنا لا نتوقف عند هذا الحد. فحنّة آرندت، في (الشرط الإنساني)، حذّرت من الوجه الآخر للمشهد: أن يتحوّل الفضاء العام إلى مسرح فرجة. قد نضحك كثيراً، نعم، لكننا نضحك لننسى، لا لنغيّر. هنا يتحوّل الضحك إلى استهلاك سريع، فيفرغ السياسة من مضمونها بدل أن يفتح آفاقاً للوعي. والسؤال الذي يفرض نفسه علينا: إلى أي اتجاه يسير العراق؟
لو نظرنا حولنا، لوجدنا أن حياتنا السياسية أشبه بكرنفال متواصل. فالبرامج الإعلامية تملأ الشاشات بالضحك والانتقاد، والانتخابات تتحول إلى مهرجان شعارات ووعود متكررة، والناس يتابعون هذا المشهد كما لو كانوا جمهوراً في مسرح. نعم، من حيث الشكل، هناك ديمقراطية ببرلمان وانتخابات وأحزاب، لكن من حيث الجوهر، كثيراً ما تنقلب إلى عرض متكرر لا يغير شيئاً. وهنا تكمن المفارقة: نحن نمارس الديمقراطية كطقس كرنفالي، لا كمشروع وعي مؤسساتي.
ولنكن أكثر وضوحاً، فالحريات عندنا تبدو موجودة، لكن بحدود. نعم، نستطيع أن نضحك وننتقد ونسخر، لكن سقف الحرية مرسوم سلفاً. وكأنها حرية كرنفالية تُعطى لنا كي نفرغ ما في صدورنا، لا كي نعيد بناء واقعنا. أما القيم، فهي في مأزق آخر: فما يُرفع من شعارات عن الوطنية أو الأخلاق يتناقض مع ممارسات يومية تقوم على المحسوبية والطائفية.
عند هذه النقطة، يجب أن نتحدث عن الوعي الاجتماعي. إن ما يضعف وعينا ليس غياب المعلومة فقط، بل سيطرة الجهل المركب، حين يظن الإنسان أنه يعرف كل شيء بينما هو في الحقيقة يكرر أوهاماً. وهنا أخطر ما نواجهه: أحادية الحقيقة، تلك الفكرة القاتلة التي ترفض التنوع وتدّعي امتلاك الصواب المطلق. هل يمكن لمجتمع ديمقراطي أن يقوم على وهم كهذا؟ قطعاً لا. الديمقراطية ليست إقصاءً، بل هي اعتراف بالتعدد. والوطنية ليست شعارات فارغة، بل هي قدرة على قبول الاختلاف وصيانة التنوع.
ولهذا، فإن الضحك وحده لا يكفي. قد يفتح لنا الضحك الباب إلى الحرية، لكنه لن يبني لنا مجتمعاً راقياً ما لم يتحوّل إلى وعي نقدي يفرّق بين التسلية والجدية، ويحوّل اللحظة الكرنفالية إلى ثقافة مستمرة. إن المجتمع الديمقراطي لا يقوم على الضحك وحده، بل على وعي يحارب الجهل، وقيم تحمي التنوع، ورغبة صادقة في الرقي.
أيها العراقي الكريم، العراق اليوم أمام خيارين: إما أن نضحك كي ننسى، فنعيش في كرنفال دائم يلهينا عن الحقيقة، أو أن نضحك كي نفهم، فنحوّل السخرية إلى وعي، والكرنفال إلى مشروع ديمقراطي. والخيار يبقى بين أيدينا جميعاً: فإما أن نضحك للنوم… أو نضحك للنهوض
من الضحك إلى الوعي: كرنفال العراق