🛑فرجال... news
ادعت وزارة الخارجية العراقية أن مشاركة رئيس الوزراء محمد شياع السوداني في قمة شرم الشيخ جاءت بدعوة من الرئيس الأميركي دونالد ترامب والرئيس المصري عبد الفتاح السيسي وأن هذه القمة ستشهد اتفاقاً نهائياً لوقف إطلاق النار في غزة وإحلال السلام في المنطقة، وفقاً لرؤية ترامب وتدبيره. غير أن التحقق من صحة هذا الادعاء في الوكالات الأجنبية لم يُفضِ إلى أي تأكيد، إذ لم يرد اسم العراق ضمن الدول العشرين المدعوة للمشاركة وهو ما يجعل البيان العراقي أقرب إلى محاولة تسويغ سياسي أكثر منه إعلاناً حقيقياً للمشاركة.
ووسط هذا الجدل خرج البرتقالي ترامب بتصريح ساخر كالعادة هاجم فيه الحكومة العراقية قائلاً: (العراق بلد عظيم يطفو على بحر من النفط لكن لا يبدو أنهم يعرفون ماذا يفعلون به). ترامب الذي ما زال يرى العالم من منظار الصفقات يوجه عينه نحو النفط فيما السوداني يوجه عينه نحو الولاية الثانية. إنها مفارقة السلطة حين يلتقي الطمع بالنفط في مشهد واحد فيغدو اللقاء بين رجل يبيع الثروة ورجل يشتري البقاء.
المفارقة الأكبر أن إيران التي تلقت دعوة مباشرة من ترامب نفسه رفضت المشاركة حتى اللحظة بينما هرول العراق نحو القمة رغم أنه لم يعترف بإسرائيل يوماً، ولم يوقع على أي هدنة من هدن 1948 أو 1967 أو 1973 كونه ليس دولة مواجهة.
ومع ذلك يصر العراق دائماً على رفع شعارات الرفض والتنديد ثم يسلك سياساتٍ توحي بعكس ذلك. هذه الازدواجية ليست جديدة على السياسة العراقية التي كثيراً ما تتأرجح بين الشعارات والواقع وبين المبدأ والمصلحة حتى باتت أقرب إلى من يقف على حافة الماء لا هو في البحر ولا على اليابسة.
السؤال القانوني الذي يفرض نفسه هنا: كيف يشارك السوداني في مؤتمر يعلم مسبقاً أن نتنياهو أحد المدعوين إليه بينما لا يزال قانون تجريم التطبيع نافذاً في العراق؟ هل يعقل أن يتجاهل رئيس الحكومة قانوناً أقره البرلمان باسم (الكرامة والسيادة)؟ ثم ما موقف الإطار التنسيقي الذي جاء السوداني من بين صفوفه؟ هل سيلجأ مرة أخرى إلى ذريعة الإطار لا يعلم والسوداني يتصرف من تلقاء نفسه كما اعتاد تبرير كل تجاوز قانوني أو سياسي سابق؟
السوداني في هذا المشهد كالطفل الذي ضاع من أمه في الزيارة كما كانت تقول الجدات في الريف مثل الضايع من أمه بالزيارة. هو تائه بين الزحام لا يعرف وجهته ولا يملك وسيلة اتصال والكل يبحث عنه في الاتجاه الخطأ. فالعراق لا يزال سياسياً ذلك الطفل الذي لم يتعلم كيف يمسك بيد أمه في الزحام الإقليمي ولا كيف يسير وحده بثقة.
ثم جاءت الصورة التي جمعت السوداني بترامب لتكون أكثر من مجرد لقطة بروتوكولية. الابتسامة الواسعة لترامب وإشارة الإعجاب بالإبهام التي ردها السوداني بالمثل تحولت إلى ما يشبه الرسالة المشفرة وكأنها إعلان عن تفاهمٍ غير معلن، أو وعد غير مكتوب. فالسوداني الذي جاء إلى السلطة بدعم الإطار التنسيقي يقف اليوم في صف واحد مع الرئيس الأميركي الذي ما زال اسمه مرتبطاً باغتيال المهندس وسليماني. كان وقع الصورة ثقيلاً جارحاً لذاكرة الفصائل التي ترى أن دماء القادة لا تُصافح قاتلها حتى وإن كانت المناسبة سياسية.
لكن السياسة لا تُدار بالعاطفة بل بالمصلحة. والسوداني يدرك أن خيوط الاقتصاد العراقي متشابكة مع واشنطن وأن استقرار الدينار وصندوق النقد واحتياطات البنك الفيدرالي كلها مفاتيح لا تفتح إلا بالمفتاح الأميركي. من هذه الزاوية ربما أراد السوداني أن يبعث برسالة مفادها أن بغداد ليست رهينة لأي محور وأنه قادر على إمساك العصا من المنتصف وأن يقدم نفسه كرجل الدولة الواقعي الذي يوازن بين طهران وواشنطن دون أن يخسر أياً منهما.
ومع ذلك فإن المصافحة التي بدت عابرة في ظاهرها كانت في عمقها إعلاناً عن تحوّل في اللغة السياسية العراقية. فالسياسي الذي يصافح ترامب اليوم قد يجد نفسه غداً أمام اختبار أخلاقي حين يُسأل: كيف مددت يدك لمن ترفع له لافتات العداء في شوارع بغداد؟ في تلك اللحظة سيتبين أن الصورة لم تكن تذكاراً دبلوماسياً بل مفترق طريق بين الولاية الأولى والثانية بين ذاكرة الدم وواقعية السلطة.
الصورة التي أربكت الإطار ليست مجرد مشهد عابر بل هي نصّ سياسي مفتوح على التأويل. فهي تقول للداخل العراقي إن رئيس حكومته يملك شجاعة التواصل مع الجميع وتقول لواشنطن إن في بغداد من يمكن الوثوق به. لكنها في الوقت نفسه تكشف هشاشة المنظومة السياسية التي لا تستطيع أن تفرق بين مبدأ وسياسة بين رمز وواقعية بين الثابت والمتحول.
في النهاية يبدو المشهد العراقي أشبه بمرآة مشوشة تعكس وجهاً لا يكتمل. بلد يرفض إسرائيل علناً ويصافح حليفها سراً يرفع شعارات المقاومة ويطلب ود واشنطن، ويعيش ازدواجيةٍ تجعله كالبطريق الذي لا يُعرف أهو كائن مائي أم بري أم برمائي.
وإذا كانت الأقدار قد جنبت السوداني حرج مصافحة نتنياهو فإنها لم تجنبه حرج الصورة ذاتها تلك التي ستظل تُطارده كظل سياسي طويل يذكره بأن السياسة لا تحفظ ذاكرة وأن من يطارد الولاية الثانية كثيراً ما يفقد طريق العودة إلى نفسه..