🛑فرجال... news
شهد العراق خلال العقدين الأخيرين تحولات هائلة في بنية الإعلام والاتصال، إذ انتقل من إعلام رسمي ذي توجه واحد إلى فضاء رقمي متشعب تتعدد فيه المنصات والاتجاهات والمصادر. ومع هذا التحول، أصبح الرأي العام العراقي أكثر انفتاحاً، لكنه في الوقت نفسه أكثر عرضة للتأثير والتوجيه عبر أدوات الإعلام الرقمي التي تمتلك قدرة غير مسبوقة على إعادة تشكيل الوعي الجمعي وتوجيه الانفعالات الجماهيرية. في هذا السياق، لم تعد إدارة الرأي العام حكراً على السلطة أو المؤسسات الإعلامية الكبرى، بل أصبحت ساحة مفتوحة تتنافس فيها القوى السياسية والاقتصادية والاجتماعية وحتى الأفراد المؤثرين عبر المنصات الرقمية.
أولاً: مفهوم إدارة الرأي العام في السياق العراقي
تُعرَّف إدارة الرأي العام بأنها القدرة على التأثير المنظم في الاتجاهات والمواقف الجماهيرية تجاه قضية معينة، من خلال توظيف الرسائل الإعلامية، والتكرار، والتأطير، والإقناع النفسي. وفي العراق، يرتبط هذا المفهوم ارتباطاً وثيقاً بالتحولات السياسية والاجتماعية التي أعقبت عام 2003، حيث تعددت مراكز القوة الإعلامية وتنافست في توجيه الرأي العام نحو مصالحها. ومع بروز الإعلام الرقمي، أصبحت إدارة الرأي العام عملية أكثر دقة وخفاءً، تعتمد على تحليل البيانات، ورصد المزاج الاجتماعي، واستخدام الخوارزميات لتوجيه المحتوى نحو فئات معينة من الجمهور.
ثانياً: التحول نحو الإعلام الرقمي وتأثيره على الوعي الجمعي
أحدثت المنصات الرقمية – مثل فيسبوك، إكس (تويتر سابقاً)، إنستغرام، وتيكتوك – ثورة في الطريقة التي يتلقى بها العراقيون المعلومات. فقد:
أصبحت هذه المنصات المصدر الأول للأخبار والنقاشات العامة.
انتقل الجمهور من موقع المتلقي إلى موقع المنتج والمشارك في صناعة الخطاب.
تراجعت مكانة القنوات الفضائية لصالح الصفحات والمجموعات المؤثرة رقمياً.
لكن هذا الانفتاح الرقمي لم يصحبه نضج في الثقافة الإعلامية، مما جعل الرأي العام العراقي عرضة لحملات التضليل الرقمي وصناعة الانقسام، حيث يمكن لأي جهة أن تُحدث أثراً واسعاً عبر محتوى موجه أو ممول.
ثالثاً: أدوات إدارة الرأي العام في العراق رقمياً
1. الخوارزميات والمنصات:
تعمل على تحديد ما يظهر للمستخدمين من أخبار ومقاطع، وفقاً لاهتماماتهم السابقة، مما يعزز ما يسمى بـ"غرف الصدى‘‘ ويجعل الجمهور محاطاً بوجهة نظر واحدة.
2. الذباب الإلكتروني:
يستخدم من قبل أحزاب أو جهات سياسية لبث رسائل موجهة، أو لتشويه سمعة خصوم سياسيين، خاصة خلال فترات الانتخابات أو الاحتجاجات.
3. الصفحات الإخبارية غير الرسمية:
تلعب دوراً مركزياً في توجيه المزاج الشعبي، إذ تُدار أحياناً من خارج العراق، وتُستخدم لبث الشائعات أو لتمرير أجندات سياسية.
4. المؤثرون الرقميون
أصبحوا عناصر فاعلة في تشكيل مواقف الجمهور، خصوصاً الشباب، من خلال المحتوى العاطفي أو الساخر أو الموجّه أيديولوجياً.
رابعاً: ملامح الرأي العام العراقي في البيئة الرقمية
يمكن ملاحظة عدة خصائص تميز الرأي العام العراقي في الفضاء الرقمي:
الاستجابة الانفعالية السريعة للأحداث، خصوصاً تلك المرتبطة بالهوية أو الأمن أو الفساد.
تعدد المرجعيات الإعلامية والسياسية، مما يخلق تشتتاً في المواقف وصعوبة في تكوين رأي وطني موحد.
تأثير كبير للمنصات الأجنبية، حيث تسهم سياسات فيسبوك وتيكتوك في تعزيز محتوى العنف أو الإثارة على حساب المحتوى التوعوي.
هيمنة العاطفة على التحليل، وهو ما تستغله الجهات المؤثرة لتوجيه الجمهور عبر الاستمالة النفسية لا المنطقية.
خامساً: أمثلة تطبيقية من الواقع العراقي
خلال انتفاضة تشرين (2019)، لعبت وسائل التواصل الاجتماعي دوراً محورياً في الحشد والتعبئة ونقل الصورة، لكنها أيضاً شهدت حملات تضليل واسعة لتشويه المطالب أو تأجيج الفوضى.
في الانتخابات البرلمانية (2021)، اعتمدت أغلب القوى السياسية على الحملات الرقمية المدفوعة والإعلانات الممولة لاستهداف فئات محددة من الناخبين.
خلال الأزمات الأمنية أو الخدمية، يُستخدم الإعلام الرقمي لإعادة توجيه الغضب الشعبي نحو أطراف معينة، في ما يشبه ‘‘إدارة الأزمات عبر التحكم بالرأي العام".
سادساً: التحديات والمخاطر
1. غياب التشريعات الواضحة التي تنظم المحتوى الرقمي وتحد من الأخبار الكاذبة.
2. ضعف الثقافة الرقمية لدى المستخدمين، مما يجعلهم أكثر عرضة للتأثير غير الواعي.
3. تعدد الجهات الإعلامية الممولة سياسياً، ما يؤدي إلى غياب المعايير المهنية.
4. استغلال الذكاء الاصطناعي في التزييف العميق لتوجيه الجمهور عبر صور أو فيديوهات غير حقيقية.
سابعاً: نحو إدارة رشيدة للرأي العام
لتحقيق توازن صحي في إدارة الرأي العام العراقي، يُقترح:
إطلاق برامج وطنية للتربية الإعلامية الرقمية في المدارس والجامعات.
دعم الإعلام الوطني المستقل لمواجهة الخطاب الموجه سياسياً.
إنشاء وحدات للرصد والتحقق من المعلومات في المؤسسات الإعلامية.
سن تشريعات رقمية حديثة تحمي حرية التعبير وتكافح التضليل.
ختاما إن إدارة الرأي العام العراقي في عصر الإعلام الرقمي أصبحت مسألة أمن وطني وثقافي في آنٍ واحد، إذ يتوقف عليها استقرار المجتمع وبناء الثقة بين المواطن والدولة. فالإعلام الرقمي يمكن أن يكون سلاحاً ذا حدين:
إما أن يُستخدم لبناء وعي نقدي ومواطنة رقمية فاعلة،
أو أن يتحول إلى أداة تلاعب تزرع الانقسام وتغذي الفوضى.
ومن هنا تبرز الحاجة إلى إدارة إعلامية وطنية واعية قادرة على تحويل الإعلام الرقمي من ميدان صراع إلى مساحة تنوير وتعبير حر يخدم مصلحة العراق ومستقبله.