🛑 فرجال... news
خور عبد الله… بين التنازل السياسي والإشكال القانوني..
ثائرة اكرم العكيدي/كاتبة وباحثة
في فلسفة الجغرافيا السياسية يُنظر إلى الحدود بوصفها خطوطاً رسمتها الدماء والاتفاقيات معا. أما في العراق فإن الجغرافيا تحولت مع الوقت إلى سلعة سياسية قابلة للتفاوض كأنها رأي شخصي أو عقار موروث يمكن بيعه بدعوى الضرورات.
لم يعد ملف خور عبد الله مجرد خلاف حدودي عابر لقد صار نموذجًا صارخًا لتقاطع المصالح السياسية، وغياب الإرادة الوطنية وانعدام الشفافية القانونية في إدارة السيادة. ما جرى ويجري حول هذا الممر المائي الحيوي يثير أسئلة جوهرية عن مفهوم الدولة، وحدود التفاوض، ومشروعية اتخاذ القرارات المصيرية بمعزل عن الشعب.
*الخلفية القانونية والتاريخية
يقع خور عبد الله في منطقة استراتيجية عند مدخل الخليج العربي. تاريخيا كان هذا الخور جزءا من المياه العراقية بحسب الخرائط العثمانية والبريطانية التي سبقت تأسيس الدولة العراقية الحديثة وقد تعززت هذه الوضعية مع قيام الموانئ العراقية مثل ميناء أم قصر التي تعتمد في حركتها البحرية على هذا الممر.
بعد حرب 1991 أصدر مجلس الأمن الدولي القرار 833 لترسيم الحدود البرية بين العراق والكويت. غير أن القرار لم يتطرق بوضوح للحدود البحرية وتفاصيل الملاحة في خور عبد الله مما أبقى الملف مفتوحاً للنزاع والتفسيرات المتضاربة.
في عام 2013. ودورة العميل رئيس الوزراء السابق نوري المالكي صادق مجلس النواب العراقي على ما سُمي بـاتفاقية تنظيم الملاحة البحرية في خور عبد الله. الاتفاقية نُشرت بصفة تنظيم تقني لكنها عملياً منحت الكويت صلاحيات واسعة في إدارة الممر وفرضت قيوداً على الحركة العراقية فيه.
الأزمة القانونية الكبرى هنا تكمن في النقاط الآتية:
أ- لم تخضع الاتفاقية لأي استفتاء شعبي رغم مساسها المباشر بالسيادة. ب_أُقرت في ظروف سياسية مرتبكة وسط انقسام داخلي وضعف تفاوضي.
ج-غاب عن الاتفاقية الضمان الواضح لحماية مصالح العراق البحرية والاقتصادية.
*البعد السياسي
سياسياً لا يمكن فهم هذا التنازل خارج سياق الأزمة البنيوية في النظام العراقي بعد 2003 حيث بات القرار السيادي رهينة حسابات التحالفات الخارجية وضغوط العواصم الإقليمية والدولية.
لقد قامت الحكومات المتعاقبة بمحاولة تبرير التنازل عن خور عبد الله بذرائع متعددة منها الحفاظ على العلاقات مع الجوار تجنب التصعيد وتحقيق مصالح مشتركة. لكن الحقيقة الأعمق أن كل تلك الذرائع تنبع من غياب الوعي السيادي ومن روح الارتهان للخارج مقابل ضمان الشرعية الداخلية.
لقد استغل بعض الفاعلين الإقليميين حالة الفوضى العراقية لتعزيز مكاسبهم مستفيدين من تشتت القرار السياسي بين مراكز القوى العراقية.وهشاشة الحكومات التي تبحث عن أي تفاهم خارجي لتثبيت شرعيتها.والتنافس الداخلي الذي جعل التنازل عن بعض الحقوق أقل كلفة من الدخول في صراع قد يُضعف السلطة.
في فلسفة التفاوض يُقال إن الطرف الضعيف يوقع دائما أسوأ الاتفاقيات. وهذا ما حدث مع خور عبد الله. فالسلطة العراقية كانت في لحظة من لحظات انعدام الوزن السياسي وتصورت أن تمرير اتفاقية تنظيم الملاحة يمكن أن يُكسبها وداً إقليميا ويجنبها الضغوط الدولية.
لكن ما جرى عملياً هو تثبيت وقائع جغرافية تصب في صالح الكويت وتضع العراق في موقع التابع لا الشريك، وتجرده من أهم ممراته البحرية تدريجياً.
*الإشكالية القانونية في الداخل العراقي.
حتى على المستوى الدستوري، تثار أسئلة خطيرة
1_هل كانت اتفاقية تنظيم الملاحة من قبيل المعاهدات الدولية التي تستلزم أغلبية خاصة لإقرارها؟
2_ هل التزمت الحكومة بإعلام البرلمان والشعب بكل تفاصيل المفاوضات والالتزامات؟
3_ هل انتُهكت مواد الدستور العراقي المتعلقة بحفظ وحدة الأرض والسيادة؟
عدم الوضوح في الإجابة عن هذه الأسئلة يجعل الاتفاقية محلاً للطعن القانوني والشعبي. فالاتفاقات التي تتعلق بسيادة الدولة لا يجوز تمريرها بروتوكولياً كأنها اتفاقية إدارية.
بالتدقيق في الوثائق نجد أن الاتفاقية لم تكن مجرد تنظيم مرور السفن، بل أعطت غطاءً قانونيا لتكريس واقع جغرافي يخدم طرفاً واحداً على حساب العراق. ولعل الأخطر أنها لم تُعرض على الشعب كاستفتاء بل جرى تمريرها بهدوء وكأن الأرض لا تستحق نقاشاً عاماً
*مسؤولية الحكومة
المشكلة هنا لا تتعلق فقط بنزاع حدودي مع الكويت بل بمفهوم المسؤولية السياسية. الحكومات المنتخبة مؤتمنة على الأرض والمياه والموانئ. وإن أي تفريط بحق سيادي هو انتهاك مباشر للعقد الاجتماعي بين الدولة والشعب.
في الدول الديمقراطية يوجب القانون أن تُطرح الاتفاقيات المصيرية للنقاش العام والشفافية المطلقة. لكن في العراق، جرى توقيع الاتفاقية وإقرارها بلا نقاش مجتمعي واسع مما خلق حالة فقدان للثقة في مؤسسات الحكم.
*الأرض ليست عقاراً سياسياً.
إن منطق التنازل عن خور عبد الله يكشف مرضاً أعمق من الفساد، وهو غياب الشعور بأن الأرض هوية وليست صفقة. حين يتحول الوطن إلى أوراق قابلة للتفاوض يختفي الإحساس الجمعي بالانتماء وتصبح السيادة مجرد شعار فارغ.ما حدث لخلجاننا وموانئنا وممراتنا البحرية ليس حادثًا معزولًا. إنه مشهد من مشاهد تسليع الدولة، وتفكيكها عقدًا بعد آخر. إن سلطة لا ترى في السيادة إلا بندًا تفاوضيًا، لا يمكنها يومًا أن تنتج مشروع وطن.
خور عبد الله اليوم هو درس لما يمكن أن يحدث عندما يغيب الوعي الشعبي وتُترك الملفات المصيرية في يد ساسة يعتبرون الجغرافيا أداة مقايضة سياسية قصيرة النظر.
وما حدث يختصر مأساة العراق المعاصر فساد عميق جعل من الكرسي أهم من الميناء.قادة لا يعرفون أن الأرض ذاكرة وشرف.شعب ضُيعَت حقوقه باسم الاستقرار الزائف.
لقد درسنا في التاريخ إن الأمم تمر بثلاث مراحل: (مرحلة البناء) ثم (مرحلة الصراع) على المصالح ثم (مرحلة الانحدار) حين يفقد الحاكمون وعيهم بقيمة ما يملكون. في هذه المرحلة الأخيرة تتحول الأوطان إلى خرائط قابلة للطي والتقسيم والبيع. يصير البحر قطعة يمكن اقتطاعها والممر شريانًا يمكن خنقه، والمواطن شاهد زور على اتفاقيات غامضة توقع في الغرف المغلقة. خطيئة بيع خور عبد الله ليست مجرد مخالفة إدارية أو خطأ تفاوضي. إنها تعبير عن ذروة انحطاط الوعي الوطني. عن السلطة حين تنظر إلى الجغرافيا نظرة بائع عقارات يفاوض على السعر لا نظرة وريث يقدر إرث الآباء والأجداد..
بالنهاية:إذا كان العراق يريد استعادة هيبته ومكانته البحرية فعليه أولًا استعادة قدرته على حماية حقوقه التاريخية والقانونية في خور عبد الله. وهذا يتطلب مراجعة الاتفاقيات المثيرة للجدل قانونياً إشراك الشعب في كل قرار يخص السيادة وبناء موقف تفاوضي قوي قائم على الحق التاريخي والقانون الدولي. إنهاء حالة الارتهان السياسي للخارج.فتح تحقيق شامل لمحاسبة المسؤولين عن التنازل.مراجعة الاتفاقية قانونياً أمام المحاكم العراقية والدولية. إطلاق حملة وطنية شعبية لاستعادة الحق.
إن الأوطان لا تضيع دفعة واحدة بل بضعة أمتار من خور هنا، وقرارات غير مدروسة هناك. لذا تبقى معركة الوعي والدفاع عن الحق السيادي أهم من كل اعتذار سياسي لاحق...