🛑 فرجال... news
ناجي الغزي/باحث سياسي واقتصادي
في مرحلة يُعيد فيها العراق ترتيب أوراقه السياسية والأمنية، وسط بيئة إقليمية ودولية مضطربة ومفتوحة على احتمالات الانفجار أو التحول، تبرز الحاجة الماسّة إلى إعلام وطني مسؤول، لا يُغريه بريق الإثارة، ولا تستدرجه أجندات الاستقطاب، بل يُعبّر عن وجدان الدولة، ويُسهم في تثبيت السلم الأهلي وبناء الثقة بين المواطن ومؤسساته.غير أن الواقع يكشف صورة مقلقة، فبدلاً من أن تكون القنوات والبرامج الإعلامية منابر توعية واستقرار، تحولت في كثير من الأحيان إلى ساحات تحريض، ومنصات تُعبث فيها الملفات الأمنية والعسكرية الكبرى بلا وعي ولا حذر، في مشهد يُهدد التوازن الداخلي ويخترق جدار الثقة المجتمعية.
إن الحديث السطحي أو التحريضي عن قضايا مثل مصير الحشد الشعبي، أو مستقبل سلاحه، أو اختراقات أمنية محتملة، لم يعد مجرد اجتهاد إعلامي، بل سلوك عبثي يدخل في نطاق التأثير السلبي المباشر على الأمن الوطني. فهذه الملفات ليست شأناً إعلامياً، بل هي من صميم اختصاص المؤسسة الأمنية والعسكرية، وتداولها على الهواء مباشرة من قبل غير المختصين، هو بمثابة إطلاق نار معنوي على استقرار الدولة.
أمام هذا الواقع المتدهور في بعض جوانبه، تصبح المساءلة ضرورة وطنية، ويُصبح تدخل هيئة الإعلام والاتصالات مطلباً عاجلاً لكبح جماح هذا الانفلات الخطير، الذي قد يُمهد الأرض لتفتيت ما تبقى من وحدة مجتمعية، ويُحوّل الإعلام إلى أداة فوضى لا حارساً للوعي.
*الإعلام ليس ساحة للعبث بالملف الأمني*
إن القضايا الأمنية والعسكرية، بحكم طبيعتها وتعقيداتها، تندرج ضمن صلاحيات الدولة العُليا ومؤسساتها السيادية المختصة، ولا يجوز بأي حال من الأحوال، أن تُختزل في نقاشات إعلامية مرتجلة أو تُعرض في برامج حوارية تفتقر إلى العمق والمسؤولية. فالمسائل المرتبطة ببنية الدولة الدفاعية، كملف الحشد الشعبي أو مسألة سلاحه ووجوده القانوني، ليست موضوعات للتداول الإعلامي المفتوح، ولا مادة لإثارة الجدل أو لرفع نسب المشاهدة على حساب السلم الأهلي والأمن المجتمعي.
ما نشهده من اقتحام بعض المنصات الإعلامية لهذه المساحات الخطرة، تحت غطاء ‘‘التحليل السياسي"، هو تجاوز فاضح للحدود المهنية والوطنية، بل يُمثل في جوهره تهديداً مباشراً لهيبة الدولة ومؤسساتها الامنية و وحدتها الداخلية، خاصة عندما يُغلف الطرح بلغة طائفية أو خطاب تحريضي يُعيد إنتاج الانقسام، ويُغذي الشكوك ويزرع الفتنة في بيئة ما تزال هشة وقابلة للاشتعال.
من هنا، تبرز مسؤولية هيئة الإعلام والاتصالات، بالتنسيق مع الامن الوطني، بوصفهما الجهة التنظيمية الرقابية، في التدخل الحازم لمساءلة كل من يتجاوز حدود العمل الإعلامي إلى ما يمس الأمن الوطني أو يعبث بتوازنات الدولة. فالتهاون مع هذه التجاوزات لا يعني فقط التواطؤ مع الفوضى، بل هو تفريط بمصالح الدولة العليا، وفتح غير مبرر لأبواب التأزيم والانقسام.
إن الإعلام الذي لا يدرك حدود دوره، ويتجاوزها إلى ما يخص الأمن والسيادة، يتحول من أداة للتنوير إلى منصة تهديد، ومن شريك في الاستقرار إلى فاعل في صناعة الاضطراب.
*التحليل الزائف... تهديد صامت للأمن الوطني*
في فضاء إعلامي بات مفتوحاً على كافة الاتجاهات، تتسلل إلى بعض البرامج شخصيات تقدم نفسها كمحللين أمنيين أو استراتيجيين، وتطرح ما تدّعي أنه ‘‘معلومات أمنية‘‘ خطيرة. غير أن التدقيق في محتوى هذه الطروحات يكشف أنها لا تعدو كونها تكهنات غير مستندة إلى مصادر موثوقة، وغالباً ما تُقدَّم بطريقة توحي للرأي العام بأنها معلومات دقيقة ومؤكدة. هذا الأسلوب لا يسهم في بناء الوعي الأمني أو تعزيز الإدراك الشعبي للمخاطر، بل يُمارَس كأداة لإرباك الشارع، وزعزعة الثقة، وزرع القلق في النفوس.
مثل هذا النوع من الطرح الإعلامي يُعدّ تهديداً صامتاً وخطيراً للأمن الوطني، فهو يضعف المناعة النفسية للمجتمع، ويفتح ثغرات أمام حملات التحريض والتأثير، وقد يُستغل من أطراف خارجية لتوسيع الشرخ الداخلي أو ضرب تماسك الجبهة الوطنية.من هذا المنطلق، تصبح مسؤولية الأجهزة الأمنية مضاعفة في هذه المرحلة، ليس فقط في متابعة التحديات الميدانية، بل في رصد الجبهات الإعلامية التي تتحول إلى أدوات تضليل ممنهج. المطلوب هو تحرّك فوري لرصد البرامج التي تحتوي على معلومات مشبوهة أو تحليلات مفبركة تُقدَّم بلباس أمني، وفتح تحقيقات صارمة مع كل من يظهر كـ"صاحب معلومات‘‘ دون أن يُقدّم هذه المعلومات عبر القنوات الرسمية المخولة بذلك.
إن من يمتلك معلومات أمنية حساسة، فإن التزامه الوطني والقانوني يفرض عليه التوجه إلى الجهات الأمنية المختصة، لا البحث عن الأضواء أو الاستثمار في القلق الجماهيري لتحقيق مكاسب شخصية أو سياسية. أما الاستعراض الإعلامي بمعلومات غير موثقة، فهو إساءة مزدوجة للوطن والمواطن، ويجب أن يُواجَه بأدوات الردع القانونية والتنظيمية، حمايةً للأمن المجتمعي واستقرار الدولة. فحين يُقدَّم المشهد الوطني كفضاء مهدد ومفتوح على الانهيار، فإن الأثر لا يتوقف عند حدود الاضطراب النفسي للمواطن، بل يمتد ليطال مفاصل الدولة الحيوية، بدءاً من الاقتصاد وحركة السوق، وصولاً إلى ثقة الجمهور بالمؤسسات، وانسجام النسيج الاجتماعي.
*خطوات مطلوبة بشكل عاجل*
استناداً إلى ما تقدم من مخاطر وتحديات، يصبح من الضروري التحرك الفوري لمعالجة مظاهر الفوضى في الخطاب الإعلامي، خاصة عند تناول القضايا الأمنية والعسكرية. ولتحصين الساحة الداخلية ومنع تحول الإعلام إلى أداة تهديد غير مباشر، نوصي باتخاذ الخطوات الآتية:
1. قيام هيئة الإعلام والاتصالات بفرض رقابة صارمة على البرامج التي تتناول قضايا أمنية أو عسكرية دون إذن أو سياق قانوني، وإيقاف أي محتوى يحرض على الطائفية أو يتحدث عن مؤسسات أمنية بطريقة فوضوية.2. منع استضافة أي شخص يدّعي امتلاك معلومات أمنية دون التحقق من مصادره، ومساءلة القنوات التي تروّج لهذا النوع من الضيوف.3. فتح قنوات تنسيق رسمية بين الإعلام والجهات الأمنية لضمان أن يكون الخطاب الإعلامي متزناً ومبنياً على أسس واضحة، لا على تكهنات أو رغبات سياسية.4. إطلاق مدونة سلوك إعلامي وطنية خاصة بالشأن الأمني، توضح ما يجوز وما لا يجوز تداوله، وتحدد مسؤوليات القنوات وضيوفها تجاه الدولة والمجتمع.5. دعم حملات توعية إعلامية ومجتمعية تؤكد على أن المعلومات الأمنية لا تُناقش إلا في مكانها، وأن الأمن الوطني مسؤولية جماعية لا مجال فيها للمغامرة أو الفوضى
*الإعلام في زمن الأزمات: مسؤولية وطنية أم منبر للفوضى؟*
