فرجال..news
أدب الطفل ..بين ثورة التكنلوجيا .. وزمن الفوضى..
ثائرة اكرم العكيدي/ كاتبة باحثة
يعاني الأدب الخاص بالطفل في المنطقة بصورة عامة وفي العراق بصورة خاصة على الرغم من أهميته من تحديات جمة فالأقلام التي تكتبه معدودة على أصابع اليد الواحدة إلا أن الآمال معلقة على الجيل الجديد.
لقد كان العراق سابقاً من أهم الدول العربية التي ركزت منذ وقت مبكر على أدب الأطفال سردا وشعرا وصحافة ونقدا ودراسة. وقد أولت المؤسسان العراق المعنية كامل عنايتها بهذه الشريحة وأعطت اهتماما زائدا بالطفل من مرحلة الروضة حتى مرحلة الابتدائية والفتوة والمراهقة، فرسمت مجموعة من البرامج والمخططات التنموية للنهوض بالطفل العراقي في جميع الميادين، فأهتمت بجوانبه السيكولوجية والاجتماعية والتربوية والأدبية والعلمية.
ومن المعلوم أن أدب الطفل لم يظهر في العراق بشكل حقيقي وفعال إلا في أواخر الستينيات من القرن العشرين بصدور مجلة (مجلتي) وبعد ذلك أتبعت هذه الصحيفة بجريدة (المزمار) التي كان لها صيت كبير على مستوى الداخل والخارج. ومن هذه الفترة، انطلق أدب الأطفال في تطوره مدا وجزرا حسب الظروف السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية.
وعليه فقد سار أدب الأطفال في العراق عبر مجموعة من المسارات الفنية والجمالية: كمرحلة الترجمة، ومرحلة الاقتباس، ومرحلة التأليف، ومرحلة التجريب، ومرحلة الإبداع، ومرحلة التأصيل.
ويمكن القول أيضا أنه اتبع مجموعة من المراحل التاريخية كمرحلة النشأة والتأسيس من العشرينيات حتى الستينيات من القرن العشرين، ومرحلة التطور والازدهار من السبعينيات حتى نهاية الثمانينات ومرحلة التراجع والانحسار ومراجعة الذات مع سنوات الألفية الثالثة.
وقد أثبتت الدراسات أن الأطفال يتعلقون بالقصة، والمسرحية، والشعر وينشّدون إليها ويحلقون في أجوائها، ويتفاعلون مع أحداثها، وأبطالها، ويتشبعون بما فيها من أخيلة، ويتعايشون مع أفكارها.
اليوم لم يعد الطفل الذي لديه خمسة أعوام الآن بوعي الطفل نفسه الذي كانت لديه خمسة أعوام حين انتهت الألفية السابقة فالطفرة الحادثة في وسائل التواصل وما لازمها من ثورة تقنية لم تلغ دور القراءة لدى الطفل لكنها فتحت مصادر تلقي المعرفة على اتساعها أمامه وهو ما خلق حالة من العشوائية في المعرفة لديه وهو ما يستدعي تعاون دور النشر والمعنيين بالكتابة للطفل وأساتذة علم نفس الطفل في تأمل الأمر والبحث في كيفية ترشيد معرفة الأطفال بما يتوافق مع طبيعة مراحلهم العمرية واحتياجاتها.
إذا ماهو واقع أدب الأطفال في العراق؟ وماهي الخطوات التي مر بها على مستوى التشكيل والتطوير؟ وماهي أهم الإنجازات التي حققها في مجال السرديات والمسرح والصحافة والفنون والمعارف الموسوعية؟
بالنسبة لسرديات الاطفال فمن المعلوم أن أدب الأطفال على المستوى السردي والحكائي قصة ورواية وحكاية لم يظهر في العراق إلا في فترة متأخرة من القرن العشرين لأسباب ذاتية وموضوعية. ومن ثم، لم تعن صحافة الأطفال في بداياتها الأولى بالقصص التي ينجذب نحوها الأطفال حيث لم يحظ الأدب القصصي في مجمله إلا بنسب واطئة، ولم تظهر قصة الطفل ببعض مواصفاتها الحالية إلا في فترة متأخرة، حيث كان الأدب القصصي يتمثل قبل ذلك في مادة قوامها الحوادث التي تصاغ بشكل قريب من المقال القصصي منها ماهي وقائع حديثة ومنها ما هي مستمدة من التاريخ، إضافة إلى بعض الحكايات الشعبية والحكايات المترجمة عن لغات أخرى.اما بالنسبة لشعر الطفل فلقد ظهر شعر الأطفال في العراق في العشرينيات من القرن العشرين تحت تأثير أحمد شوقي الذي كان يعد الرائد الحقيقي لأدب الأطفال في العالم العربي كما يتجلى ذلك واضحا في (ديوانه الشوقيات). ومن المجلات التي كانت متخصصة في نشر قصائد الأطفال نلفي مجلة التلميذ العراقي التي خرجت إلى حيز الوجود عام 1923م.
ومن أهم الشعراء العراقيين الذين كتبوا للأطفال نذكر (مصطفى جواد) و(محمد رضا الشبيبي) و(معروف الرصافي)و(محمد بهجت الأثري) و(جميل الزهاوي) و(عبد المحسن الكاظمي).ومن المعلوم أن الشاعر العراقي الكبير (معروف الرصافي) قد خصص للأطفال ديوانا شعريا بعنوان (تمائم التربية والتعليم) يحمل في طياته مجموعة من القصائد والأناشيد والمقطوعات الشعرية الطفلية ذات الأهداف التربوية والتعليمية والتهذيبية..ولاننسى أيضا الشاعر محمد باقر سماكة، وعبد الرزاق الربيعي، وعبد الرزاق عبد الواحد، ومالك المطلبي وخيون دواي الفهد، وسعد جاسم، وكريم العراقي وجليل خزعل صاحب ديوان (كلمات نحبها) وصلاح حسن، وفاضل عباس الكعبي، والشاعر أحمد حقي الحلي الذي أصدر مجموعتين شعريتين، أولاهما طبعت في مصر تحت عنوان (الأناشيد الطفلية).
أن التحولات الكبرى على مدار السنوات الأخيرة خلفت تأثيراتها الواضحة على الجميع حيث لا يمكن اعتبار الطفل بمعزل عما جرى من حوله من حروب وثورات وربما فوضى في بلاده، حيث إن نفسية الطفل البيضاء تحتفظ بكل شيء في داخلها.
لقد عانينا على مدار عقود من تهميش وظلم فكري وثقافي وأدبي. ولبناء المجتمع فكرياً وثقافياً وأدبياً، يجب أن ننطلق من الأطفال والأدب الخاص بهم، والذي يلعب دوراً محورياً في تشبعه بثقافته وأدبه وفكره لتصقيل مهارته.
وان المقاربة الأخلاقية والقيمية المتشددة التي تفرض قيودا مجحفة ورقابة ذاتية ومؤسساتية واجتماعية صارمة تقولب الأدب الموجه للطفل وتحصره في المثالية والنهايات السعيدة، في بلدان عربية يحتك فيها أغلب الأطفال برواسب الواقع إلى درجة مؤلمة. وهذه ازدواجية محيرة ومربكة للأطفال تجعلهم سجناء تمثلات وأحكام اجتماعية لا تمت إلى واقعهم بصلة وبالتالي لا تساعدهم على فهمه ومجابهته وتجاوزه بالمخيلة.
لطالما كان هناك تقصيرا عربيا في إصدار دراسات وكتب نقد لأدب الطفل، وهو ما يؤثر سلبا على تطور فن الكتابة للأطفال الذي يتطلب مواكبة التطورات المتلاحقة.
ادب الطفل اليوم هو من الأجناس الأدبية التي تتطلب من الكاتب التقرب من الأطفال لكتابة ما هو مطلوب.
وترى هذه الدراسة أن الكتاب العراقيين قد استفادوا من التراث القصصي العربي.وترى هذه الدراسة أيضا أن قصص الأطفال في العراق تجمع بين المتعة والفائدة، وتعتمد على فن الرسم وتربط الأطفال بواقعهم المعيش وأن قصاصي الأطفال يجيدون صنعتهم وينجحون في توظيف كل عناصر القصة. وعلى الرغم من أهمية هذه الدراسة فإننا نراها تتسم في كثير من جوانبها بالمبالغة وتجاوز الحقيقة.
ومن القصص التي ظهرت في العراق في تلك الفترة قصص الحيوان والنبات والجماد وقصص الخوارق وقصص البطولة والمغامرة والقصص التاريخية والقصة العلمية والقصة الإنسانية والتعليمية وقصص البطولة بمفهومها الفدائي المرتبطة بقضية فلسطين السليبة.
يقيناً أن طفل اليوم هو ليس طفل الأمس فهو يمسك الهاتف ويتعرف على العالم في عمر مبكر جداً، مشاكله اختلفت، حتى إن أغلب أطفالنا صاروا إنعزاليين، لذا لا يمكن أن يبقى الخطاب في أدب الطفل قائما على البساطة المفرطة، إنهم يتابعون ما يُعرض على القنوات الفضائية من أفلام الرسوم المتحركة ذات المواضيع المغايرة، ويتفاعلون معها، بالطبع أن تلك الأفلام من إنتاج غربي. فإحدى الحلقات مثلاً تطرقت بطريقة كوميدية إلى اكتشاف الأطفال تغيراً بأصواتهم، وكان ذلك تمهيداً إلى عملية النموّ الجسدي، وحلقة أخرى عن مشكلة طفلٍ صغير مع جدّته، فهو لا يحب أن تقبّله على وجهه، وهنا يتعاون أصدقاؤه معه لكي يتجاوز هذه المعضلة النفسية ويبحثون عن حلٍ له، يتم طرح تلك المواضيع بطريقة لطيفة مضحكة تجذب الأطفال بقوة وتستفز عقولهم وربما تثير مخيلتهم وتدفعهم للتساؤل.
إنها مواضيع عميقة تلامس عقول الأطفال وهي أكثر حساسية من قضية تنظيف الأسنان أو تناول الخضروات.
في أي كتاب قصصي للأطفال، قام بتأليفه كاتب عربي، وبشكل أدق كاتب عراقي، سنجد طفلاً أكثر من أكلِ الحلوى وأهمل تنظيف أسنانه، ونجد طفلاً لم يسمع كلام ذويه، أو تأخر عن موعد النوم، أو قصّر في مذاكرة دروسهِ أو تشاجرَ مع زميله، غالباً ستكون الحبكة على هذه الشاكلة والنهاية واحدة لكلّ تلك القصص الطفولية، وهي معروفة للجميع، نهاية تتسم برسالة أخلاقية يراد ايصالها للطفل. حتى هنا يبدو الأمر مثالياً، فالتصور السائد أن مشاكل أطفالنا واهتماماتهم تنحصر في همومهم الصغيرة التي تتعلق بأكل الحلوى وتحضير الدروس واللعب مع الأصدقاء هذا ما ترسخ في ذهن كتاب الأطفال الذين أغلبهم عاشوا طفولةً بسيطة خالية تماماً من المظاهر التقنية الهائلة التي تهيمن على حياتنا وحياة أطفالنا حالياً.
أنا لست بالضد من أدب الطفل الذي يتم طرحه بالمجمل فأطفالنا بالتأكيد بحاجة النصح لكني مع التجديد في المواضيع وملامسة همومهم بشكلٍ يحاكي مقدار ذكائهم واطلاعهم، إن أطفالنا اليوم يتابعون المسلسلات التاريخية والدينية والإجتماعية، حتى ممن هم دون العاشرة، على تَعقّد موضوعاتها، وتشابك أحداثها وسلبية بعض الشخوص فيها، فضلا عن أفلام لقصص عالمية تروي حكايات ناضجة ومعقدة، من هذا الباب علينا النظر لأدب الطفل بعمق أكبر، يوازي ما يتم تقديمه في العالم اذ لا يمكن البقاء على المسار القديم في تناول الموضوعات، بينما يتم ضخ برامج تحوي قصصاً قد تمرّر أفكاراً لا تناسب أطفالنا.
يصرف أطفالنا ساعات طويلة في مشاهدة مقاطع اليوتيوب غالبا تلك المقاطع لأشخاص يقدمون محتوىً سطحياً أو مبتذلاً، فضلاً عن ممارسة الألعاب الألكترونية، توفير البدائل أمر ضروري، إنه يتعلق بتعزيز حب القراءة، سواء كان في المنزل أو المدرسة، عندما نعدّ لأطفالنا مجلات ونؤلف الكتب، فلابدّ أن نكون حريصين على عدم الإستخفاف بعقولهم، فهم ليسوا في زمننا حيث كنا نشاهد قناةً واحدة ونقرأ فقط مجلتي والمزمار، إنهم ببساطة مطلعون على آداب أخرى وإن كانت تأتيهم بوسائل تقنية جديدة.
أظن أن لا خوف على أطفالنا من قصص فيها شخوص لديها ردود أفعال طبيعية، وتتحرك في حيزٍ واقعي، مع حلول ناضجة وخطاب عال، لأن تقديم أشخاص مثاليين على شاكلة واحدة من البساطة المفرطة هو أمر يتناقض مع الواقع من حولهم.
كاتب الأطفال أو الكاتب عامة لا بد أن يعيش عصره يعيش التطورات التي تجري فيه. هكذا نحقق أهدافاً عديدة مجتمعة ليس أولها توسعة المدارك وشحذ الخيال وتوسعة اللغة ولا آخرها ارضاء شعور الأطفال بالمتعة والفائدة.
أن إغناء المكتبات بالنتاجات الأدبية الخاصة بالطفل وتشجيع الأطفال على حب القراءة والاطلاع ليس بالأمر السهل فهي بحاجة إلى تضافر الجهود من كافة المعنيين، أدباء وكتاباً وهيئات ومؤسسات ثقافية وفنانين تشكيليين.
في عالم متصل ومفتوح إلى هذا الحد، يجب على أدب الأطفال أن يصطبغ بصبغة كونية تجعله يشمل قضايا إنسانية عامة، ويكسر الحدود الذهنية أمام أطفال تحد أجسادهم الجغرافيا، بينما تسرح بأذهانهم التكنولوجيا بعيدا.
إذا تحققت هذه الشروط أمكن منافسة الإنتاج الأجنبي في مجال أدب الطفل والتفوق عليه، ووطننا العربي وبلاد الرافدين تحتوي على المادة الخام لذلك النجاح سواء من حيث مخزون التراث وتاريخ الأدب العربي الزاخر، أو المواهب الأدبية الكثيرة والمتعددة.
إن قلة النتاجات لا تسمح حتى بتقييمها أدبياً أو نقدياً، فتقييمها يحتاج إلى وجود زخم أدبي.
الكتابات الأدبية الموجهة للطفل العربي تفتقر إلى الابتكار والواقعية فمنذ طفولتي وأنا أرى معظم قصص الأطفال ساذجة مجترة من قصص عالمية ومملة بعض الشيء إلى درجة أنه يمكن للطفل القارئ التكهن بأحداث القصة قبل قراءتها. أحس أن ذلك مرتبط بنظرتنا الدونية للطفل العربي كمتلق ومستهلك للأدب لا بوصفه منتجا له وفاعلا فيه.
هنا ضرورة أن يتفرغ الكتاب الموهوبون لهذا الأدب ويفرغون فيه كل جهودهم وطاقاتهم وأن يعملوا باحترافية وليس بمزاجية الفرص المتاحة. وأخيرا أن تقام المسابقات الدورية والسنوية لهذا النوع من الأدب وترصد لذلك المبالغ المالية المعتبرة والمكافآت ذات القيمة العالية سواء كانت مادية أو معنوية.
لكي يتطور أدب الطفل يجب أن تكون هناك دراسات نظرية وتطبيقية حول ما يصدر من أعمال توجه للطفل في مصر والعالم العربي ودول العالم جميعها حتى تدفع الكتاب لتطوير أنفسهم وأعمالهم.
نحتاج حركة نقد حقيقية حركة نقد رئيسية حول أدب الأطفال، للأسف الناشرون عامة يرفضون نشر أي دراسات عن نقد أدب الأطفال.
كما يجب أن يتوفر الإبداع الموجه للطفل على اربع ميزات أساسية هي: اللغة والأسلوب الجيد والمزج بين الواقع والخيال والقيم والأفكار النبيلة والتسلية وروح المغامرة.
يجب على الكتاب والأدباء التوجه إلى هذه الساحة لأهميتها وضرورتها عبر تشجيعهم على ذلك وهذا ما يتطلب من الفنانين أيضاً، فإن جزءاً من كتاب الطفل يعتمد على الرسوم والأشكال. فيما على هيئات التربية افتتاح مكتبات للطفل في المدراس وتخصيص حصص للقراءة والمطالعة.
واخيرا..يعتبر أدب الطفل العمود الفقري وحليب الام الثقافي الذي يجب ان ترضعه لأبنائنا، كي ينمو نموًا سليماً يغذي عقله وينمي فكره بالوعي والانتماء الى الشعب والوطن والإنسانية، وكي يقوم البناء الحضاري لمجتمعنا على أسس قوية متينة، ويستطيع الصمود والثبات أمام حالات التّطرف والانزلاق إلى هاوية الرذيلة والسقوط في وحل آفات المجتمع السيئة، فنحن بحاجة الى ادب أطفال يستطيع الصمود امام التحديات، وينجح في خلق جو ثقافي عام، نحن بحاجة إلى تحويل تراثنا الثقافي الغني الى إبداع ثقافي ومنجز أدبي يفتح ذهن الأبناء ويطور حضارتنا كشركاء في صنع حضارة هذا العالم وليس كضيوف عليه ننتظر إنجازات غيرنا..