🛑فرجال... news
{نِعمةُ الإنجِذاب وفَريضةُ الشُّكْـرِ} بقلم العلامة عبدالعظيم مهتدي البحراني.. *
(بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَٰنِ الرَّحِيمِ)*
الحمدلله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله الهداة إلى دين الله، واللعنة على أعدائهم.. أعداء الله، من الآن إلى يوم لقاء الله...
قال ربّنا جلّ جلالُه: *(وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ)*. *وأمّا بعد:* فإنّ هنا مقدّمةٌ، ومحوران، وخاتمة. *المقدّمة:* إنّ اجتماعًا جماهيريًّا يصل عدده قرابة 25 ميليونًا وبهذه الطريقة العظيمة في أخلاقيات التحابُب والتواضع والتعاون والسخاء والبكاء والفداء.. لَهُو حُلُمُ الدول والأحزاب ومُنىٰ الشعوب والطوائف والجماعات، وهيهات أن تناله.. ولكنّها لأبي عبدالله الحسين الذي كان له قلبٌ واحدٌ فقدّمه داميًا إلى الله تعالى فقدّم الله إليه قلوب الملايين من البشر على امتداد أزمنة التاريخ وإلى يوم القيامة لا تكون سوى نعمةً من نِعَم الله العظيمة على أتباع مذهب أهل البيت (عليهم السلام) وهي بعض جزائهم مقابل تضحياتهم الجسيمة في الثبات العقائدي المتميّز تحت ضربات الأعداء خارجيًّا وتشكيكات الجهلاء داخليًّا.
كم هو مؤلمٌ أن ترى سقوط نفرٍ من الشيعة في وحل التشكيك بمشروعية هذه الزيارة العظيمة بموازاة الفخر والإعتزاز من هذا الإجتماع الميليوني الباهر في أخلاقياته الحسينيّة الرائدة حيث يتماسك به المسلمون الشيعة بين أنفسهم من جهة ومن جهة أخرى يلتحمون بمنصفي المذاهب الأخرى ويتعارفون مع غير المسلمين أيضًا من عشّاق الحسين وأحرار العالم!!
فتارةً يتساءل هذا النّفر المسكين!! حول الرواية الدالّة عليها ويناقش سندها وهل هي ثابتة؟!
وتارةً ينتقد بعض النواقص الصغيرة التي هي من طبيعة الاجتماعات العفويّة للجماهير انتقادًا للهدم لا للتصحيح!!
وتارةً يفلسف لها بنظريات يحاول بها تَقَمُّص ثوب الحضارية، فيقول مثلًا أنّ صرف المال في كذا وكذا أفضل من صرفه في هذا السفر الأربعيني.. وما شابه ذلك مما يسمى بأطروحات حِداثية وهي على سراب بائس من أوهام اليائسين!!
لا شكّ أنّ جهل هؤلاء بعظمة هذا الدّين ذي العمق الولائي الممزوج بالبراءة الحكيمة، أو أخذهم مما يوحي إليه الشياطين من حيث يشعرون أو لا يشعرون، أو حبّهم للدخول إلى عالَم الشهرة من باب ‘‘خالِفْ تُعرَف".. هو السبب وراء سقوطهم في هذه الفتنة المُضلّة. وإلا فالإنسان السويّ دينيًّا وعقليًّا وحتى الطبيعيّ سياسيًّا لن يُخسِرَ دينَه وعقلَه وسياستَه نعمة الجماهيرية الميلونية التي تشكّـل له عامل ضغط في صراع التحدّيات.
لذلك لا يمكن وصف من يشكّـك في شرعية هذه الظاهرة الشعبيّة إلا بأنّ له نصيبًا كبيرًا من الجهْل والغباء أو من العلاقة بدوائر العملاء أو من حبّ الذات وسفالة الأهواء، لذلك وجب توبيخه بشدّة، علّه يستفيق من غفلته وعسا أن يحذر ممَن يقف وراء هذه التشكيكات وهو لا يدري!!
ولنا بصائر هنا في محورين ثم خاتمة:
*المحور الأوّل:*
إذ نشدّ على أيدي جميع الذين ينتجون هذه الملحة الأربعينية الشامخة بفكرهم وبتشجيعهم وبمالهم وبحضورهم وبجهودهم لكي يزحف الملايين إلى مركز النور في كربلاء بأمنٍ ويُسر.. نحاول تبيين قبسٍ من سرّ الإنجذاب لدى المؤمنين وانشداد الأحرار في العالَم إلى شخصية الإمام الحسين (عليه السلام) في هذه المسيرة الشعبية الباهرة التي ظهرتْ لأوّل مرّة في تاريخ الإسلام بهذه الشاكلة تجسيدًا لقوله تعالى: *{ذَٰلِكَ الَّذِي يُبَشِّرُ اللَّهُ عِبَادَهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ ۗ قُلْ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَىٰ ۗ وَمَنْ يَقْتَرِفْ حَسَنَةً نَزِدْ لَهُ فِيهَا حُسْنًا ۚ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ شَكُورٌ}*.
علمًا والحسين بالمفهوم المادّي ليس إلا جثّةٌ ممزَّقةٌ مدفونةٌ تحت أمتارٍ عميقة من تراب كربلاء المقدّسة لم يستطع أن يحرّك الزاحفين إليه بدنيًّا !!
فنقول: إنّ ها هنا عشرة طوائف من الأحاديث الشريفة الواردة عن المعصومين (عليهم الصلاة والسلام) قد كفلتْ ببيان جوانب من هذا السرّ، وعلى كلّ إنسان أن يجد لنفسه فيها محلًّا من الإعراب:
*الطائفة الأولى:*
•أحاديث الطينة والولادة•
مثل قول الإمام علي (عليه السلام):
*{إِنَّ اللَّهَ تَبَارَكَ وَ تَعَالَى اطَّلَعَ إِلَى الْأَرْضِ فَاخْتَارَنَا وَ اخْتَارَ لَنَا شِيعَةً يَنْصُرُونَنَا، وَ يَفْرَحُونَ لِفَرَحِنَا، وَ يَحْزَنُونَ لِحُزْنِنَا، وَ يَبْذُلُونَ أَمْوَالَهُمْ وَ أَنْفُسَهُمْ فِينَا، أُولَئِكَ مِنَّا وَ إِلَيْنَا}*.
وقول الإمام الصادق (عليه السلام):
*{إِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَ جَلَّ خَلَقَنَا مِنْ عِلِّيِّينَ وَ خَلَقَ أَرْوَاحَنَا مِنْ فَوْقِ ذَلِكَ وَ خَلَقَ أَرْوَاحَ شِيعَتِنَا مِنْ عِلِّيِّينَ وَ خَلَقَ أَجْسَادَهُمْ مِنْ دُونِ ذَلِكَ فَمِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَانَتِ الْقَرَابَةُ بَيْنَنَا وَ بَيْنَهُمْ وَ مِنْ ثَمَّ تَحِنُّ قُلُوبُهُمْ إِلَيْنَا}*.
*الطائفة الثانية:*
•أحاديث الولاية والبراءة•
مثل قول الإمام الكاظم (عليه السلام):
*{طوبَى لِشيعَتِنا المُتمسِّكِينَ بِحُبِّنا -وفي روايةٍ بحبلنا- في غَيْبةِ قائِمِنا الثّابِتِينَ عَلى مُوالاتِنا والبَراءةِ مِن أعدائِنا أولئِكَ مِنّا ونَحنُ منهُم قد رَضُوا بِنا أئِمّةً ورَضِينَا بِهِم شيعةً وطوبَى لهُم، هُم واللهِ مَعَنا فِي دَرجَتِنا يَومَ القِيامَة}*.
*الطائفة الثالثة:*
•أحاديث المقام العلمي والمناقب الأخلاقيّة•
مثل قول الإمام زين العابدين (عليه السلام) في خطبته بمجلس الطاغية يزيد:
*{أَيُّهَا النَّاسُ، أُعْطِينَا سِتًّا وَ فُضِّلْنَا بِسَبْعٍ، أُعْطِينَا الْعِلْمَ وَ الْحِلْمَ وَ السَّمَاحَةَ وَ الْفَصَاحَةَ وَ الشَّجَاعَةَ وَ الْمَحَبَّةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ، وَ فُضِّلْنَا بِأَنَّ مِنَّا النَّبِيَّ الْمُخْتَارَ مُحَمَّداً، وَ مِنَّا الصِّدِّيقُ، وَ مِنَّا الطَّيَّارُ، وَ مِنَّا أَسَدُ اللَّهِ وَ أَسَدُ رَسُولِهِ، وَ مِنَّا سِبْطَا هَذِهِ الْأُمَّةِ، مَنْ عَرَفَنِي فَقَدْ عَرَفَنِي وَ مَنْ لَمْ يَعْرِفْنِي أَنْبَأْتُهُ بِحَسَبِي وَ نَسَبِي...}*.
*الطائفة الرابعة:*
•أحاديث واقعة عاشوراء الفجيعة•
مثل ما رُوِيَ أنه لمَّا أخبر النبي (صلى الله عليه وآله) ابنته فاطمة (عليها السلام) بقتل ولدها الحسين (عليه السلام) وما يجري عليه من المحن بكتْ فاطمة بكاءً شديدًا، وقالت: *{يا أبَتِ! متى يَكونُ ذلك}*؟ قال: *{في زمانٍ خالٍ منّي ومنكِ ومِن عليّ}* فاشتدَّ بكاؤها وقالت: *{يا أبَتِ! فمَن يَبكِي علَيْه؟ ومَن يَلتزِم بإقامَةِ العَزاءِ له}*؟ فقال النبيّ (صلى الله عليه وآله): *{يا فاطمة! إنّ نساءَ أمّتي يبكُونَ على نساءِ أهلِ بيتي، ورجالهم يبكون على رجال أهل بَيْتي، ويُجدِّدونَ العَزاءَ جِيلًا بعد جِيل فِي كلّ سنة، فإذا كانَ يوم القِيامة تَشفَعِينَ أنتِ للنّساء وأنَا أشفَعُ للرّجال، وكل مَن بكىٰ منهُم على مُصابِ الحُسين أخَذْنا بيدِه وأدخَلنَاه الجنّة. يا فاطمة! كلّ عَيْنٍ باكيةٌ يومَ القِيامَة إلاَّ عَيْنٌ بكتْ على مُصابِ الحُسين، فإنّها ضاحِكَةٌ مُستَبشِرةٌ بِنعيمِ الجنّة}*.
*الطائفة الخامسة:*
•أحاديث الزيارة وفضلها وآدابها•
مثل قول الإمام الصادق (عليه السلام):
*{مَن خَرَجَ مِن منزلِه يُريدُ زِيارةَ قبرِ الحُسينِ بن عليّ (عليهما السلام) إنْ كانَ ماشِيًا كَتَبَ اللهُ له بكلّ خُطوةٍ حسنةً ومَحىٰ عنه سيّئة، حتّى إذا صَار فِي الحَائِر كَتَبَه اللهُ مِن المُفلِحين المُنجِحين، حتّى إذا قضىٰ مَناسِكَه كَتَبَه اللهُ مِن الفائِزين، حتّى إذا أرادَ الإنصرافَ أتاهُ مَلَكٌ فقال: إنّ رسولَ اللهِ (صلى الله عليه وآله) يَقْرؤك السلام ويقول لك: إستأنفِ العَملَ فَقَد غُفِرَ لكَ مَا مَضىٰ}*.
وقول الإمام الرضا (عليه السلام):
*{إِنَّ لِكُلِّ إِمامٍ عَهْداً في عُنُقِ أَوْلِيائِهِ وَشيَعتِهِ، وَإِنّ مِنْ تَمام الْوَفاءِ بِالْعَهْدِ زِيارَةَ قبورِهِمْ فَمَنْ زارَهُمْ رَغَبةً في زِيارَتِهِمْ وَتَصْدِيقاً بِمَا رَغبُوا فيهِ كانَ أَئِمَّتُهُمْ شُفَعاؤُهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ}*.
*الطائفة السادسة:*
•أحاديث الغيب•
مثل قول الإمام الصادق (عليه السلام): *{وَكَّـلَ اللهُ تعالى بِقبرِ الحُسين (عليه السلام) سَبعِينَ ألفَ مَلَكٍ شُعَّـثًا غُبَّرًا يبكُونَه إلى يومِ القِيامَة يُصلّونَ عِنْدَه، الصّلاةُ الواحِدةُ مِن صلاةِ أحدِهِم تَعدِلُ ألفَ صلاةٍ مِن صلاةِ الآدميّين يكُونُ ثوابُ صَلاتِهم، وأجرُ ذلِكَ لِمَن زَارَ قبرِه (عليه السلام)}*. ومثل قوله (عليه السلام): *{ما مِن أحدٍ يومَ القِيامَة إلّا وهو يَتمنّي أنّه مِن زوّارِ الحسين، لمّا يرىٰ ممّا يُصنَع بزوّارِ الحسين (عليه السلام) مِن كَرامتِهِم عَلى اللهِ تعالى}*.
*الطائفة السابعة:*
•أحاديث النهضة الحسينية•
مثل أقوال الإمام الحسين نفسه (عليه السلام) حول خروجه على طاغية زمانه، وإعلانه أهدافَه الإسلامية والإنسانية الراقية، ومثل سيرته الأخلاقية العظيمة وخاصةً في الموقف من عدوّه.. كسَقْيِه الماء على مشارف كربلاء الجنود الذين جاؤوا لقتاله وهم عطاشا.
ومثل كلماته الإبائيّة والإستنهاضيّة التي لازالتْ تُلهِم الأحرار إرادة المقاومة وتضخّ فيهم روح التحرّر وتعلّم الأجيال ثقافة الكرامة.. مثل قوله: *{واللهِ لَا أُعطِيكُم بيدِي إعْطاءَ الذّلِيل ولا أُقِرُّ لكُم إقْرارَ العَبِيد}*. وقوله: *{يا شِيعةَ آلِ أبي سُفْيان.. إنْ لَم يَكُن لَكُم دِينٌ، وكُنتُم لا تَخافُون المَعادَ، فكُونُوا أحرَارًا فِي دُنياكُم هَذِه، وارجِعُوا إلى أحسَابِكُم إنْ كُنتُم عُرُبًا كما تَزعُمون}*.
*الطائفة الثامنة:*
•أحاديث الكراهة المشدَّدة لترك الزيارة•
مثل قول سليمان بن خالد: سمعتُ أبا عبدالله (عليه السلام) يقول:
*{عَجَباً لِأَقْوَامٍ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ شِيعَةٌ لَنَا وَ يُقَالُ إِنَّ أَحَدَهُمْ يَمُرُّ بِهِ دَهْرَهُ وَ لَا يَأْتِي قَبْرَ الْحُسَيْنِ (عَلَيْهِ السَّلامُ) جَفَاءً مِنْهُ و تَهَاوُناً وَ عَجْزاً وَ كَسَلًا، تَهَاوَنَ وَ عَجَزَ وَ كَسِلَ، أَمَا وَ اللَّهِ لَوْ يَعْلَمُ مَا فِيهِ مِنَ الْفَضْلِ مَا تَهَاوَنَ وَ لَا كَسِلَ}*. قُلْتُ جُعِلْتُ فِدَاكَ وَ مَا فِيهِ مِنَ الْفَضْلِ؟ قَالَ (عَلَيْهِ السَّلامُ): *{فَضْلٌ وَ خَيْرٌ كَثِيرٌ، أَمَا أَوَّلُ مَا يُصِيبُهُ أَنْ يُغْفَرَ لَهُ مَا مَضَى مِنْ ذُنُوبِهِ وَ يُقَالَ لَهُ اسْتَأْنِفِ الْعَمَلَ}.*
*الطائفة التاسعة:*
•أحاديث الأجر الأخروي•
مثل ما رُوِيَ أنَّ النبي (صلى الله عليه وآله) كان ذات يوم جالسًا، وحوله عليّ وفاطمة والحسن والحسين (عليهم السلام)، فقال (صلى الله عليه وآله) لهم: {*كَيفَ بِكُم إذا كُنتُم صَرعَىٰ، وقبورُكُم شتَّىٰ؟*. فقال له الحسين (عليه السلام): *{أنَموتُ مَوْتًا أو نُقتَل؟}*. فقال (صلى الله عليه وآله): *{بل تُقتَل يَا بُنيَّ ظلمًا، ويُقتَل أخُوك ظُلمًا، وتُشرَّد ذَرارِيكُم فِي الأرض}*. فقال الحسين (عليه السلام): *{ومَنْ يقتُلُنا يا رسولَ الله؟}*. فقال (صلى الله عليه وآله): *{شِرَارُ النَّاس}*. فقال (عليه السلام): *{فَهَلْ يَزورُنا بَعد قتلِنا أحدٌ؟}* فقال (صلى الله عليه وآله): *{نَعَمْ، طَائِفةٌ من أمَّتي يُريدونَ بزِيارتِكُم بِرِّي وصِلَتي، فإذا كَان يومُ القيامَة جِئْتُهم إلى المَوقِف حتى آخُذَ بأعضَادِهِم فأخلِّصُهُم من أهوالِهِ وشَدائِدِه}*.
*الطائفة العاشرة:*
أحاديث العتب الشديد للمقصِّرين.
مثل ما رواه الشيخ المفيد بإسناده إلى علي بن ميمون، عن أبي عبد الله الصادق (عليه السلام)، قال: *{يَا عليّ، بَلَغَني أنّ قومًا مِن شيعتِنا يَمرُّ بأحدِهِم السَّنَةُ والسَّنَتَان لا يَزُورُ الحُسين}!*قلت: جُعِلتُ فداك، إني أعرف ناسًا كثيرًا بهذه الصِّفة.
فقال (عليه السلام): *{أمَا واللهِ لِحظِّهِم أخطَئوا، وعَن ثَوابِ اللهِ زَاغُوا، وعَن جَوارِ محمّد (صلَّى الله عليه وآلِه) تَبَاعَدوا}*.
قلت: جُعِلتُ فداك، في كَم الزِّيارة؟ فقال (عليه السلام): *{يَا عَلي، إنْ قُدِّرتَ أنْ تَزورَه كُلَّ شَهرٍ فافعَلْ}*.
ومثل قول محمد بن داود بن عقبة: كان لنا جارٌ يُعرَف بـ (علي بن محمد)، قال: كنتُ أزور الحسين (عليه السلام) في كلّ شهر، ثمَّ عَلَتْ سِنِيِّ، وضَعُفَ جِسمي، وانقطعتُ عنهُ مُدَّة. ثم وقع إليَّ أنها آخرِ سِنِيِّ عُمري، فحمَلْتُ على نفسي وخرجْتُ ماشيًا، فوصلْتُ في أيام، فَسلَّمتُ وصَلَّيتُ ركعَتَي الزيارة، ونمتُ. فرأيتُ الحسين (عليه السلام) قد خَرَجَ من القبر، فقالَ لي: *{يَا عَلي، لِمَ جَفَوتَني وكنْتَ بي بِرّاً؟}*. فقلتُ: يا سيِّدي، ضَعُفَ جِسْمي، وقصُرَت خُطاي، ووقع لي أنَّها آخر سِنِيِّ عُمري، فأتيتُك في أيام، وقد رُوي عنكَ شيءٌ أحبُّ أن أسمعُه مِنك. فقال (عليه السلام): *{قُلْ}*. فقلتُ: رُوي عنك: (مَنْ زَارَني في حَيَاتِه زُرتُه بَعد وَفاتِه). فقال (عليه السلام): *{نَعَمْ}*. قلت: فأرْوِه عنك: (مَنْ زَارَني في حَيَاتِه زُرتُه بَعد وَفاتِه)؟ فقال (عليه السلام): *{نَعَمْ، اِروِ عَنِّي: مَنْ زَارَني في حَيَاتِه زُرتُه بَعد وَفاتِه، وإنْ وجدتُه في النَّار أخرَجتُه}*.
*المحور الثاني:*
إنّ تلك الأحاديث الشريفة بيّنتْ لنا الدوافع الإيمانيّة والولائيّة والإنسانيّة التي تقف وراء نعمة الإنجذاب نحو الإمام الحسين والتي من أبرزها زحف الملايين المتجهة إلى زيارته (عليه السلام) لأداء تحيّة الأربعين وسلام الوفاء والبيعة. فترى الزائر يتحمّل كافّة الصعوبات في سبيل الوصول إلى ضريحه الشريف والصلاة لله تعالى تحت قبّته النوراء.. أو تراه يتعاطف مع رسالته ومظلوميته أو يستعبر عند سماعه تلك المصائب الحسينية التي هزّتْ أركان السماوات والأرض.
ذلك هو جزءٌ من فريضة شُكْر النعمة، ونقول هنيئًا للشاكرين. ولكن يوجد هنالك جزءٌ آخر للشُّكْر وهو أن يساهم الزائر في تحقيق الأهداف الإسلامية التي وقعتْ لأجلها قضية عاشوراء. فإذا كلّ زائرٍ ينحى هذا المنحى من زيارته ولو بنسبةٍ مّا لَسوف تنتقل القضية الحسينية إلى فعلٍ جماهيريٍّ عالميٍّ واسع الإنتشار ذي بُعدٍ تطبيقيٍّ عمليٍّ لأهداف الإمام الحسين التي هي أهداف جدّه الرسول محمد (صلى الله عليه وآله). وهو ما كان يريده الإمام (عليه السلام) من شيعته ومحبّيه.
فالقسم الأوّل من هدف الزيارة الأربعينية إذن قد تحقّق في زماننا ولله الحمد وهو السَيْل البَشَريّ الهادر من كلّ أنحاء العالَم والذي أعطتْ فيه الجماهيرُ الميليونيّة الزائرة صورًا رائعةً للوفاء والولاء والسّخاء والفداء.. وهذه هي *النعمة*.
وبقي القسم الآخر وهو التحدّي الأكبر الذي يريدنا أهل البيت (عليهم السلام) أن ننتقل إليه بتقوى الله ونظم أمرنا.. وهو توظيف هذه الجماهير في تحقيق أهداف الحسين المتمثّلة في العبادة الواعية ومبادئ العدالة الواعدة وفي الإصلاحات الشاملة والأخلاق الفاضلة وفي إرساء قواعد السّلم والأمن والمحبّة والتنمية البشرية.. أليست هذه هي من مصاديق الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؟ أجل وهذا هو *شُكْر النعمة* وهو فريضة.
فلابدّ لنا إذن أن نقرأ الزيارة الأربعينية في سياق الأهداف الحسينية وعدم الفصل بينهما، فإنّنا وبهذه الرؤية الرسالية المتصلة بما كان يهدفه الإمام الحسين من نهضته المباركة سنشارك بإذن الله في التمهيد الحقيقي لظهور حفيده الإمام المهدي (أرواحنا فداه).
ومن هنا سيعرف الزائر قيمة التعبئة الولائيّة المتواصلة لمشاركته في هذه الزيارة العظيمة. هذا مع العلم أنّ قضية الحسين لا يختصرها الحضور الميليوني في زيارة الأربعين بل ومعها عشرات المئات من ملايين الشيعة المنتشرين في أرجاء العالَم أيضًا يحيون مراسم الإنتماء الأربعيني للإمام الحسين وعظمته النوعيّة.. هذا بالإضافة إلى محبّيه (عليه السلام) من غير الشيعة ومن غير المسلمين مما يرفد هذا الإعتزاز والإقتدار في الإنتشار العالمي للإسلام الحقيقي والتمهيد المهدوي.
*وأمّا الخاتمة:*
لكي نعمّق في جماهير الشيعة وغيرهم معاني (الإنجذاب.. كنعمة إلهيّة) أكثر فأكثر.. ولكي نستطيع حمل الجماهير الأربعينيّة مسؤوليّة (الإنتشار.. كشُكْرٍ لها).. تجب توعيتهم بما حواه نصّ زيارة الأربعين الذي يتلونه الزائر أمام ضريح الحسين (عليه السلام) وقد ضمّنه حفيده الإمام الصادق (عليه السلام) مضامين متكاملة من المفاهيم الفكرية والتربوية ذات الرؤى الإستراتيجية في التأسيس لمناهج العزّة والكرامة على طريق التغيير والإصلاح وترويض العقبات والتحدّيات.
وبعد هذا كلّه أمٰا يستحي أولئك النفر المُشكِّك حينما تتجاوزه ملايين الزوّار بمشيهم الواعي والمُعبِّر عن دعائهم في سجود زيارة عاشوراء المقدّسة:
*{اَللّـهُمَّ لَكَ الْحَمْدُ حَمْدَ الشّاكِرينَ لَكَ عَلى مُصابِهِمْ. اَلْحَمْدُ للهِ عَلى عَظيمِ رَزِيَّتي. اَللّـهُمَّ ارْزُقْني شَفاعَةَ الْحُسَيْنِ يَوْمَ الْوُرُودِ. وَثَبِّتْ لي قَدَمَ صِدْق عِنْدَكَ مَعَ الْحُسَيْنِ وَاَصْحابِ الْحُسَيْنِ اَلَّذينَ بَذَلُوا مُهَجَهُمْ دُونَ الْحُسَيْنِ عَلَيْهِ السَّلامُ}*.
عندما نتمكّن من العبور إلى مثل هذه المفاهيم الولائية العميقة سنرمي وراء ظهورنا كافّة الأفكار السلبية والنعرات الجاهلية والأنانيات القاتلة وحتى تلك الأنماط مما تشبّه بالشعائر الحسينية وهي ليست منها في شيء...
فبالوعي فقط وبالوعي أيضًا سيُهزِم الزائر الأربعيني مساعي الأعداء ويرتقي مدارج النبلاء.
* *سيّدي يا مولاي:*
*{ اَشْهَدُ اَنَّ دَمَكَ سَكَنَ فِي الْخُلْدِ وَاقْشَعَرَّتْ لَهُ اَظِلَّةُ الْعَرْشِ، وَبَكى لَهُ جَميعُ الْخَلائِقِ وَبَكَتْ لَهُ السَّماواتُ السَّبْعُ وَالاَْرَضُونَ السَّبْعُ وَما فيهِنَّ وَما بَيْنَهُنَّ وَمَنْ يَتَقَلَّبُ فِي الْجَنَّةِ وَالنّارِ مِنْ خَلْقِ رَبِّنا وَما يُرى وَما لا يُرى... }.*
تقبّل منّي يابن رسول الله هذا القليل من الكلمات في نصرتك يا ثار الله...
*وأنا الفقير إلى رحمة ربّك الغنيّ:*
عبد العظيم المهتدي البحراني