🛑فرجال... news
د. ثائرة اكرم العكيدي
بداية اقول هذه المقالة ليست محاولة لتسقيط المعرض أو المسؤولين عنه بل هي قراءة نقدية تهدف إلى تسليط الضوء على الفجوة بين الهدف الثقافي المرجو من معرض بغداد للكتاب وبين الواقع التنظيمي والتجربة الفعلية للزائر. الغاية هي تقديم ملاحظات بناءة قد تساعد في تحسين التجربة المستقبلية لتصبح المنصة الثقافية حقيقية واحتفالية بالكتاب والقارئ بعيداً عن الفوضى أو الانطباعات السطحية.
زرت معرض الكتاب العام الماضي وأخبرني بعض الأصدقاء أن الحال لم يختلف كثيراً هذا العام حدث يُفترض أن يكون احتفالاً بالثقافة والكتابة يتحول في غالب الأحيان إلى مرآة لقصورنا التنظيمي وانكسار التقدير للجمهور وللقارئ ذاته. أول ما يلفت النظر هو البوابات تلك المداخل التي يُفترض أن تحرس الحدث وتؤطره لكنها تكتفي باللمس السطحي بالمظاهر وحدها، وكأن الثقافة نفسها لا تحتاج إلى عناية والزائر يمشي لمسافة طويلة من البوابة وصولاً لقاعة المعرض تحت أشعة الشمس، بلا مظلات أو مرشات
القاعة الرئيسية الجملون لا تحمل سوى شعور بالهشاشة أرضها متذبذبة سقفها هش وكأن كل شيء مؤقت مؤجل وكأن ما يُعرض من عناوين لن يصل أبداً إلى قلب القارئ.
المسلة التاريخية هناك في معرض الكتاب الدولي تلك القطعة الصلبة من التاريخ لكنها بلا روح بلا انسجام مع المكان، وكأنها مجرد واجهة للصور لا أكثر. كان يمكن أن تُعرض بطريقة تجعل الزائر يشعر بالرحلة التي حملتها عبر الزمن أن تُضاف إليها عناصر بصرية أو سياقية تروي قصتها أو حتى إضاءة دقيقة تُبرز تفاصيلها.
الزائر يقف أمامها يلتقط صوراً ويكمل طريقه وكأنها مجرد قطعة ديكور تاريخي بينما هي تحمل عراقة وذكريات لم تُروى بعد.
كان يمكن جعلها مركزاً يتنفس يدعو للتأمل ويثير الفضول.
كان بالإمكان إضافة خلفية تفاعلية أو لوحات صغيرة تسرد تاريخها أو حتى زاوية تصوير تحاكي الزمن الذي جاءت منه لتصبح أكثر من مجرد واجهة لتصبح تجربة تعليمية وثقافية حقيقية تُعيد للزائر شعوراً بالدهشة والارتباط بالماضي بدل أن تكون قطعة جامدة بين الكتب والأكشاك.
أما الأطفال فإن حضورهم يعكس جانباً من الحياة اليومية أكثر من حضوره في الثقافة أغلب العوائل تعتبر المعرض فرصة للنزهة واللقاء والأكل وزاوية رضا علوان التي يفترض أن تعج بالشباب والكتب تمتلئ بالعائلات والأطفال. بعضهم يستريح في عربات الأطفال وبعضهم يبحث عن لعبة تلهمه وبعضهم يتفاعل بطرق عفوية تصدر أصواتهم أحياناً بلا ترتيب بينما الأمهات يحاولن ضبط اللحظة بصوت أعلى من اللازم.
هذه المشاهد غير المألوفة في معارض كتب تهدف إلى الاحتفاء بالكتابة والكُتاب تُظهر فجوة بين الهدف الثقافي للحدث وواقع استخدامه كمساحة للترفيه العائلي.
لا ألوم العائلات على طبيعة تواجدهم بل أجد أن المسؤولية تقع على عاتق المنظمين والجهة القائمة على المعرض التي سمحت بانتشار هذه المظاهر خصوصًا وأن الحدث يُفترض أن يكون منصة ثقافية لا بازاراً شعبوياً لكسر الملل الروتيني.
هذه الفجوة بين الهدف والممارسة تُذكرنا بأهمية التنظيم والإشراف الدقيق كي يكون المعرض حقاً مساحة للتلاقي مع المعرفة والكتاب قبل أن يتحول إلى مجرد مكان للترفيه.
عدد المتطوعين الذين ليس لهم عمل واضح سوى التجول بأروقة المعرض أعلام بعض الدول المشاركة ليست متواجدة ودور النشر المحدودة على العراق ومصر ولبنان وسوريا والأردن وقطر والإمارات وإيران كلها تفاصيل تعكس اختياراً جزئياً يعتمد على نشاط بعض الدور على وسائل التواصل الاجتماعي دون النظر إلى العلاقات الثقافية والمصالح المشتركة مع دول أخرى.
كما أن غياب أغلب دور النشر العالمية المهمة يُعزى إلى أن الجهة الراعية للمعرض ليست حكومية وليست عضواً في اتحاد الناشرين العرب ما أثر بشكل واضح على تنوع العروض.
وفي الوقت نفسه لوحظ غزو الكتب التجارية القصص المستمدة من واتباد التي تستهدف المراهقين أو من يعانون المراهقة المتأخرة والجفاف العاطفي ووفرة كتب التنمية البشرية وكتب تعلم اللغات في يومين أو تعليم صناعة وجبة فاخرة في خمس دقائق… كلها تجعل المعرض أقرب إلى سوق متنوع للمنتجات السريعة بدلاً من منصة للتأمل الثقافي والفكري.
ولا يمكن فصل التجربة عن أسعار الكتب التي غالباً ما تبدو خيالية في ظل الظروف الاقتصادية الصعبة. وعندما يستفسر القارئ عن السبب يُقال له إن الحكومة تفرض مبالغ عالية كبدل إيجار بينما البوابة بعيدة عن مكان إقامة المعرض فيظل القارئ ضحية وضع يجعل المعرض متنفسه الوحيد مع كل الكم من الفوضى والتنكيد.
الكتب تبقى على الرفوف،وحيدة والكتاب ينتظر من يراه وفي الوقت نفسه يلاحظ حضور جمهور ومشاهير لا يضيفون قيمة ثقافية للحدث مجرد تطبيل وحضور صوتي لا أكثر.
لو أتينا للمقارنة بين معارض بغداد ومعارض إقليم كردستان، نرى الفرق بوضوح في التنظيم وحجم الفعاليات. ففي إقليم كردستان غالباً ما تُنظم المعارض بتخطيط محكم، تلتزم فيها المساحات والبنيات الأساسية من مداخل واضحة مروراً بالبوثات الموزعة بطريقة مدروسة وصولاً إلى مرافق مريحة للزوار مع الاهتمام بكافة التفاصيل الصغيرة التي تجعل تجربة القارئ سلسة وممتعة.
المساحات المخصصة للعوائل والأطفال تكون محددة ومنظمة دون أن تطغى على جو المعرض الثقافي والزيارات الرسمية والمؤسساتية واضحة ومتصلة بالحدث.
أما في بغداد فالزيارة تعكس فجوة أكبر بين الهدف الثقافي والحقيقة الواقعية بين الطموح والإنجاز وهو ما يجعل القارئ والزائر يشعر أحيانًا بالارتباك أو الإرهاق.
ومع كل هذا يبقى الأمل في التغيير مستقبلاً ممكناً لو أُعطي التنظيم حقه ولو أُعطيت الثقافة مكانها اللائق ولو أُهملت المصالح الفردية لصار المعرض تجربة متكاملة يُحتفى فيها بالكتاب والقارئ معاً تجربة تُشبه العراق الذي نحلم به حضارة، تنظيم، تقدير للروح الإنسانية، وفضاء يحتضن المعرفة قبل كل شيء...