فرجال.. News
ناجي الغزي/ باحث سياسي وإقتصادي
في تحوّل استراتيجي غير مسبوق، تتكشف معطيات استخباراتية وتقنية تشير إلى أن إيران نجحت في تنفيذ واحدة من أعقد وأعمق عمليات الاختراق السيبراني والهندسي الميداني التي استهدفت منظومة الردع النووي الإسرائيلي، ليس فقط عبر الاستيلاء على وثائق وخرائط شديدة السرية، بل عبر إعادة صياغة مفهوم الردع نفسه من حالة دفاعية إلى منصة هجومية معرفية شاملة. العملية تضع تل أبيب في لحظة اختلال بنيوي نادر في تاريخها الأمني منذ نشأة مشروعها النووي في ديمونا، وتدفع بالمنطقة نحو عصر جديد من التوازنات الهجينة التي تدمج القدرات المعرفية، والردع الشبكي، والابتزاز الحركي.
*أولاً: الأبواب التي لا تُفتح*
لم يكن الوصول إلى الوثائق النووية الإسرائيلية مجرد عملية اختراق تقني، بل كان عبوراً طويلاً عبر ‘‘جغرافيا العقل الإسرائيلي". اخترق الإيرانيون خطوط الدفاع الأخيرة، ليس بقوة السلاح، بل بقوة الأسئلة الدقيقة التي تطرحها العقول الاستخباراتية حين تكون مدفوعة بالإيمان، بالحساب، وبحلم قلب المعادلة.
في تلك اللحظة التي ظن فيها الأمن الإسرائيلي أنه قد احتوى كل الاحتمالات، كانت هناك منظومة اختراق مركّبة قد اكتملت من سنوات. شخصٌ ما داخل أحد أقسام مفاعل ديمونا، ربما حمل ملفاً مشفّراً، أو زرع برنامجاً خفياً في شبكة داخلية، أو مرّر معلومة صغيرة تفتح شجرة من الأسرار.
*ثانياً: المعرفة التي تُرعب أكثر من القنابل*
ما حصل لم يكن تجسساً كلاسيكياً، ولا حتى عملية استخباراتية تقليدية. كان الإيرانيون ينحتون في عقل العدو، كما ينحت النحات تمثالاً من الرخام البارد. تسلسل تخصيب اليورانيوم، مخازن البلوتونيوم، مفاتيح إطلاق الصواريخ النووية، أنظمة التبريد، سلوك القيادات العسكرية في لحظة القرار… كلها أصبحت فصولاً في بنك معرفة طهراني.
في تلك الليلة، لم يعد الردع الإسرائيلي فكرة مخيفة، بل أصبح نصاً مكشوفاً، يمكن فهمه وإعادة كتابته، بل حتى تعطيله لحظة الحاجة.
*ثالثاً: عندما تصمت القبة النووية*
إسرائيل، التي اعتادت أن تلوّح بالضربة النووية كدرع أخير، وجدت نفسها فجأة في موقف يشبه العري الاستراتيجي. كل الأبواب التي كانت مغلقة بإحكام قد أصبحت صوراً رقمية على شاشات الإيرانيين.
القيادة الإسرائيلية بدأت تدرك أنها فقدت الاحتكار الأهم: احتكار المعرفة. وما أن فقدت هذه الورقة، حتى أصاب الصمت مراكز القيادة. لم تعد ‘‘القبة النووية‘‘ صلبة كما كانت، بل أصبحت صورة مُهشّمة، يسهل تحليلها وإعادة رسمها، وحتى خنقها.
*رابعاً: الوعي الإيراني - سلاح لا يُرى لكنه يُرعب*
لم تكن هذه حكاية قنبلة تُصنَع في أعماق الجبال، ولا منشأة نووية تُبنى على أطراف الصحراء. لم يكن الانتصار في رقصة أجهزة الطرد المركزي، ولا في حيازة البلوتونيوم. القصة الحقيقية كانت شيئاً آخر تماماً… قصة وعي، صُنع بهدوء، وتغذّى على الصبر، وتسلل كالماء في شقوق الحائط الذي ظنّت إسرائيل أنه لا يُخترق.
إيران لم تلاحق القنبلة النووية كما تفعل القوى التقليدية. بل ذهبت أبعد من ذلك. تساءلت، وفكّرت، وقرأت خريطة الصراع بطريقة مختلفة. لم تسعَ لصنع سلاح يشعل الحرب، بل لصياغة سلاح يعيد تعريف منطق الحرب نفسه. صنعت من الفهم قوةً، ومن المعرفة صاروخاً لا يُطلق، لكنه يهتزّ له العقل الإسرائيلي من الداخل.
أدركت إسرائيل أن إيران لا تحتاج إلى قنبلة كي تربك توازناتها. يكفي أن تعرف كيف بُنيت القنبلة، وأين تُخزّن، وكيف يُتخذ القرار باستخدامها. ويكفي أن تُظهر – بلحظة خاطفة – أنها قادرة على اختراق هذا السرّ، حتى يرتجف الردع ذاته.
*خامساً: تل أبيب تعيد النظر في نفسها*
بينما كانت الطائرات الإسرائيلية تحلّق في أجواء غزة ولبنان والضفة الغربية، كانت طهران تحلّق على مستوى آخر، في شبكة صامتة من البيانات والمخططات والوثائق المسروقة. لم تحتاج إيران إلى إطلاق صاروخ، بل إلى إطلاق جملة من الشيفرات في شبكة مشفّرة بالفضاء السيبراني، أو إلى تشغيل عميل نائم في لحظة حاسمة.
العبور إلى العمق الإسرائيلي تمّ بلا طلقة، لكنه كان أعنف من حرب. لقد شلّت طهران مفاصل إسرائيل الاستراتيجية بكلمة سرّ.
وحين اجتمعت القيادة الإسرائيلية العليا، لم يكن السؤال هو ‘‘من فعل هذا؟"، بل ‘‘ما الذي تبقّى لنا لم يُخترق؟". لأول مرة، تتصدع أسس الثقة داخل أجهزتها الأمنية. ملفات سرّية تُنشر، رموز تُفك، نماذج محاكاة تُسرّب، والشعور بالعجز ينمو بصمت.
كان على إسرائيل أن تعيد تعريف خطوطها الحمراء: لم تعد الضربة النووية كافية، بل أصبح عليها أن تحمي ذاكرتها أولاً، أن تُغلق نوافذها السيبرانية، وتُعيد بناء جدران عقلها الاستراتيجي.
*سادساً: الردع لم يعد نووياً فقط*
ما فعلته إيران ليس إعلان نصر، بل إعلان فلسفة جديدة: أن تكون متقدماً لا يعني أن تكون قاتلاً، بل أن تكون قادراً على نزع سلاح القاتل من يده دون أن تقتله. وأن تفهم بنية الخصم حتى تشلّ إرادته.
صعد الردع الإيراني من تحت الأرض، لا عبر الأنفاق، بل عبر الكود، والمعرفة، والتخطيط بعيد المدى. باتت طهران تقول: ‘‘لا نحتاج إلى سلاح نووي لنواجه سلاحكم النووي… بل نحتاج إلى أن نعرفكم أكثر مما تعرفون أنفسكم."
هكذا، تقف إسرائيل الآن أمام مرآة مشروخة. الردع الذي كانت تبني عليه مكانتها قد اخترق، والمجهول القادم يُخيف أكثر من الحروب. أمّا إيران، فقد دخلت عصر الردع المعرفي من أوسع أبوابه، وأصبحت أول من يضع قدميه بثقة في حقبة ما بعد النووي.
إنها لحظة تحوّل، لا تقاس بصواريخ، بل تُقاس بمقدار الصمت الذي يسبق الانهيار.