"عندما تتكلم الارض‘‘
(تنوع اللهجات في العراق.. وحدة في التعدد..)
ثائرة اكرم العكيدي/كاتبة وباحثة
يتميز العراق بفسيفساء لغوية فريدة من نوعها في العالم العربي، فبين أزقّة بغداد وأهوار الجنوب وسهول الموصل وجبال كردستان، تتعانق لهجات متقاربة حدّ الألفة، ومختلفة حد الدهشة. هذه اللهجات ليست مجرّد اختلافات نطقية بل مرآة تعكس تاريخاً طويلاً من التعايش والصراع والتبادل الثقافي والتأثير الحضاري المتبادل عبر العصور.
يُولد العراقي على ضفاف لهجته لهجة ليست فقط ما نلفظه من حروف، بل ما نخزنه من وجعٍ وحنينٍ وسخريةٍ وعناد.لهجة ترضع من أثداء الأمهات مشوبةً بالحكايا بالتحذيرات بالأمثال وبصوت الجد حين يتنهد قبل أن يروي. في العراق لا لهجة واحدة بل أغنيات متعددة بلحنٍ واحد.
لهجة الجنوب ليست لهجة بل رائحة طين. لهجة البغدادي ليست نطقاً بل ميزان دقيق بين الشدة واللين.
لهجة الموصل كأنها صلاة بصوت منخفض. لهجة الأكراد حين ينطقون العربية فيها دفء غريب كأن الجبل يحاول أن يصبح نخلة..
لهجات العراق تنوع يعكس الجغرافيا والتاريخ ويمكن تقسيم هذه اللهجات إلى عدة مجموعات رئيسية أبرزها:
1. اللهجة البغدادية: وهي لهجة العاصمة تمتاز بالوسطية فهي تمتص من لهجات الشمال والجنوب، وتُعد الأكثر فهما على نطاق واسع داخل البلاد.
2. اللهجة الجنوبية (الريفية أو الفراتية): تنتشر في محافظات مثل البصرة،والناصرية،الديوانية،النجف،
كربلاء السماوة وتتميز بموسيقاها المميزة، وكثرة استخدام الضمائر الصريحة وقربها في بعض جوانبها من الفصحى.
3. اللهجة الموصلية (الشمالية): أقرب للهجة الشامية في بعض مفرداتها لكنها تحمل نغمةً خاصة، تعكس انفتاح الموصل التاريخي على بلاد الشام وتركيا.
4.لهجة أهل الانبار تميل إلى البساطة في اللفظ، وخلوها من التكلف وغالباً ما تأتي الجمل قصيرة ومباشرة ما يعكس بيئة الصحراء والبادية حيث يُقدر الصمت ويُختصر الكلام.
5.اللهجة الكردية: وإن كانت لغة مستقلة، إلا أن اللكنة الكردية تظهر في حديث الأكراد بالعربية، وتخلق نكهة فريدة تعبّر عن الهوية القومية ضمن النسيج الوطني.
6. اللهجة التركمانية والسريانية والآشورية: لهجات لأقليات عريقة، ما تزال تحتفظ بوجودها في بعض مناطق العراق، خاصة في الشمال.
حماية اللهجة العراقية واجب وطني وضرورة تربوية وثقافية
لذا دعوة إدراجها في المنهاج الدراسي
مؤخرا من قبل مركز حقوق الانسان في العراق وبجميع فروعها الرئيسية والثانوية ضمن مناهج دراسية رسمية
باعتبارها جزءًا من الهوية الوطنية والموروث الثقافي الذي يواجه خطر التآكل والاندثار. وتأتي هذه الدعوة في سياق تزايد الوعي بأهمية حفظ التنوع اللغوي المحلي، في مواجهة ثلاثي خطير: العولمة، الإهمال المؤسسي، وهيمنة اللغة الرسمية المنمطة.
اللهجة العراقية أكثر من مجرد نُطق فهي بتعددها وغناها إذ تتفرع إلى لهجات رئيسية كالبغدادية والجنوبية (الفراتية)، والشمالية (الموصلية)، فضلًا عن لهجات الأقليات اللغوية كالكردية، التركمانية، والآشورية. وهذه اللهجات لا تمثل فقط طريقة نطق، بل تحمل بداخلها تراكمًا زمنيًا من الأمثال، المفردات، النكات، المرويات، والتجارب اليومية التي تصوغ وعي الفرد العراقي منذ طفولته.
إدراجها في المنهاج الدراسي لا يعني إحلالها محل الفصحى بل تثبيتها كطبقة ثقافية حيوية توازي الفصحى وتثري فهم الطالب لهويته المحلية والانتماء لمجتمعه.فهناك عدة عوامل تهدد باندثار اللهجة منها:
1. العولمة الإعلامية واللغوية
مع ازدياد تعرض الأطفال لوسائل الإعلام الأجنبية والمحتوى المعرب بطريقة نمطية، بدأت اللهجة المحلية تتقلص في وعي الجيل الجديد، حتى بات بعض الأطفال ينطقون بكلمات هجينة لا تنتمي لا للهجة المحلية ولا للعربية الفصحى.
2. الإهمال المؤسساتي والتربوي
لا توجد أي استراتيجية تربوية رسمية لحفظ أو توثيق اللهجات العراقية. بل على العكس، قد يُمنع استخدام اللهجة داخل الصفوف التعليمية، وكأنها عائق أمام التعليم، لا أحد مكوناته الثقافية. هذا التجاهل يُنتج قطيعة بين الطالب ومجتمعه اللغوي المحلي.
3. هيمنة الفصحى في الفضاء الرسمي
اللغة العربية الفصحى، على الرغم من أهميتها وثرائها، تهيمن على جميع المناهج، والإعلانات، والرسائل المؤسسية. في المقابل، تُهمش اللهجات ويُنظر إليها نظرة دونية، على أنها غير مؤهلة أو غير راقية ما يخلق شعورا بالخجل لدى بعض الطلاب من استخدام لهجتهم الأم.
ولذا يجب أن تُدرس اللهجة العراقية
وذلك لحماية الذاكرة الجمعية اللهجات تحمل قصص الأجداد أسماء الأماكن والتجارب الجمعية التي لا تُترجم في اللغة الرسمية. تدريسها يُعيد الاعتبار لهذه الذاكرة ويمنع طمسها.
وايضا لتعزيز الانتماء حين يشعر الطالب أن لهجته ليست موضع سخرية أو تهميش بل مادة تُدرّس وتحترم فإنه سيعتزّ بانتمائه المحلي ويتعلم أن التنوع ليس ضعفًا بل ثراء.
وايضا لإثراء اللغة العربية ذاتها فاللهجات ليست خارج اللغة العربية بل امتداد لها وجذر من جذورها. وفهمها يُعمق فهم الطالب للعربية الفصحى لا سيما في الاشتقاق والمجاز الشعبي.
-التشابه والاختلاف: كيف تتقاطع اللهجات؟
رغم هذا التنوع في اللهجة العراقية فإن العراقيين يفهمون بعضهم بعضا بسهولة نسبيا. ويُعزى هذا إلى أسباب عدة:
-الاختلاط السكاني: خاصة في المدن الكبرى مثل بغداد حيث تعيش مكونات المجتمع العراقي جنبا إلى جنب.
-وسائل الإعلام: الإذاعات والتلفزة العراقية القديمة التي كانت تستخدم لهجة وسطية قريبة من البغدادية لعبت دورا في توحيد الفهم.
-الحياة العسكرية والتعليم: ساهم التجنيد الإجباري والانتقال لأغراض الدراسة أو العمل في خلق جسور لغوية بين أبناء المحافظات
اللهجة هوية فلا تقتصر اللهجة على الكلمات بل تتعدّاها إلى النبرة، الإيقاع وحتى طريقة التعبير عن المشاعر. ولهجة الفرد في العراق تُعد بطاقة تعريف لا يُستهان بها، يمكن أن تكشف عن منطقته طبقته الاجتماعية أحيانا حتى طائفته أو خلفيته الثقافية.
ومع ذلك فإن هذا التنوع لم يكن يوما حاجزا بين العراقيين بل مصدر فخر وجمال. كثيرا ما ترى شابا من الموصل يقلد لهجة أهل البصرة بدعابة محبة أو فتاة من النجف تتقن لهجة البغداديين ببراعة. إنها لعبة لغوية تُمارس في الحياة اليومية وتُنتج شعورا بالانتماء المشترك رغم اختلاف الألفاظ.
(هناك مقترحات تربوية ممكنة منها)
-إدراج وحدات في مادة اللغة العربية تتناول المفردات المحلية، والأمثال الشعبية، والفروق بين لهجات المحافظات.
-تشجيع الطلاب على إجراء مقابلات مع كبار السن وتوثيق قصصهم بلهجتهم.
-تنظيم مسابقات أدبية ومسرحية باللهجة المحلية لتعزيز استخدامها الإبداعي.
-إصدار كتيبات مدرسية تراعي التنوع اللهجي وتقدمه كجزء من التراث.
العراق ليس فقط بلد حضارات بل بلد لهجات تنبض بالحياة. هذا التنوع ليس مدعاة للفرقة بل دليل على غنى ثقافي لا يُضاهى. وبين لهجةٍ وأخرى تنكشف قصص الناس، وأغانيهم، وأمثالهم،? وضحكاتهم وآهاتهم.
اللهجات في العراق لا تتنافس بل تتواطأ على أن تبقى.فكل لهجة تُخبئ في داخلها جغرافيا، وديناً، وقبيلة، وطفولة، وحباً ضائعاً.
لكنها جميعاً تُترجم القلب العراقي ذاته بنبضه، بشغفه، بانكساره.
في العراق، قد تتكلم دون أن تُفصح، فلهجتك تسبقك إلى الناس تكشف عنك كأنها ظلك. فاللهجة ليست حاجزا، بل سُلم، نصعده واحدا واحدا نحو الآخر.
فالعراقي حين يُقلّد لهجة غيره لا يسخر بل يغازل.كأنها رقصة لغوية فيها شيء من الاعتراف، شيء من الانتماء شيء من الحبّ الذي لا يُقال صراحة.
والعراق رغم ما حُمل من هموم، لم يفقد صوته.فكل محافظة فيه تتكلم بطريقتها، لكن الوجع واحد، والأمل واحد، والوطن حين يُنطق.. يُنطق بنفس الحرف ونفس الغصة.
لهجات العراق ليست لهجات فقط
إنها وجوه متعددة لمرآة واحدة.
إنها أغانٍ شعبية لبلدٍ يُحاول أن يبقى واقفاً... ولو بصوتٍ مكسور.
في النهاية، يبقى العراقي أيا كانت لهجته يتحدث بلسانٍ واحد حين يتعلق الأمر بالوطن... فاللهجة عراقية والروح عراقية والذاكرة واحدة.
وإن دعوة مركز حقوق الإنسان لإدراج اللهجة العراقية في المنهاج الدراسي ليست مطلباً لغوياً فحسب بل مطلب ثقافي وحقوقي وتربوي. فحماية اللهجة تعني حماية وجه العراق الداخلي وجهه الشعبي الحي اليومي.
والأمم التي تهمل لغتها الأم أو لهجاتها تُقصي نفسها عن ذاتها وتغترب بصمت.
ويبقى السؤال مفتوحاً:
هل نمتلك الشجاعة التربوية لنقول لأبنائنا: تحدثوا كما أنتم... فلهجتكم لا تقل شرفاً عن فصاحتكم..